وتسمى بغزوة الأحزاب
’ وقد كانت فى شوال سنة خمس هجرية على ما جزم به ابن إسحاق وعروة ابن الزبير وقتادة و البيهقى وجمهور علماء السيرة ’ وقيل فى سنة أربع من الهجرة . وقد تفرد به موسى ابن عقبة ورواه عنه البخارى وتابعه فى ذلك مالك .
وسببها : أن نفراً من زعماء اليهود من بنى النضير خرجوا حتى قدموا مكة فدعوا قريشاً الى حرب رسول الله صلىالله عليه وسلم وقالوا : سنكون معكم حتى نستأصله ’ وقالوا لهم إن ما أنتم عليه خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم ففيهم نزل قول الله تعالى
ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) فاتفقوا مع قريش على حرب المسلمين وتواعدوا لذلك .
ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم الى مثل ما دعوا إليه قريش ’ ولم يزالوا بهم حتى وافقوهم على ذلك ’ ثم إلتقوا ببنى فزارة وبنى مرة ’ وتم لهم مع هؤلاء جميعاً تواعد فى الزمان و المكان لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تهيؤ المسلمين للحرب : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وسمع بخروجهم من مكة ندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم فى الأمر ’ فأشار عليه سلمان الفارسى بالخندق ’ فأعجب ذلك المسلمين ( والخندق مما لم يكن يعلمه العرب من وسائل الحرب ) فخرجوا من المدينة وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفح جبل سلع فجعلوه خلفهم ’ ثم هبوا جميعاً يحفرون الخندق بينهم وبين العدو ’ كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف ’ وعدد ما إجتمع من قريش و الأحزاب و القبائل الأخرى عشرة آلاف .
مشاهد من عمل المسلمين فى حفر الخندق : روى البخارى عن البراء رضى الله عنه قال : لما كان يوم الأحزاب ’ وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب عنى جلدة بطنه ’وكان كثير الشعر ’ وروى أنس رضى الله عنه أن الأنصار و المهاجرين كانوا يرتجزون وينقلون التراب على متونهم :
نحن الذين بايعوا محمداً على الإسلام ما بقينا أبداً
فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك فى الأنصار و المهاجرة
وروى البخارى أيضاً فى صحيحه عن جابر رضى الله عنه قال : إنا يوم الخندق نحفر فعرضت لنا كدية شديدة ’ فجاؤا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت فى الخندق ’ فقال : أنا نازل ’ ثم قام وبطنه معصوب بحجر ’ ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً ’ فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل ( أو أهيم ) فقلت يا رسول الله إئذن لى الى البيت فقلت لإمرأتى رأيت بالنبى صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان لى فى ذلك صبر ’ فعندك شىء ؟ قالت عندى شعير وعناق ’ فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة ’ ثم جئت النبى صلى الله عليه وسلم و العجين قد إنكسر و البرمة بين الأثافى قد كادت أن تنضج ’ فقلت طعيّم لى فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان ’ قال : كم هو ؟ فذكرت له ’ قال كثير طيب ’ فقل لها لا تنزع البرمة و لا الخبز من التنور حتى آتى ’ ثم نادى المهاجرين و الأنصار فقال لهم قوموا .... وفى طريق أخرى : فصاح النبى صلى الله عليه وسلم : يا أهل الخندق ’ إن جابر قد صنع سوراً فحىّ هلا بكم ’ فلما دخل جابر على إمرأته قال : ويحك جاء النبى صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين و الأنصار ومن معهم ! .... قالت : هل سألك كم طعامك ؟ قال : نعم ’ قالت : الله ورسوله أعلم .
ثم جاء النبى صلى الله عليه وسلم فقال : ادخلوا ولا تضاغطوا ’ فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه الحم ويخمّر البرمة و التنور إذا أخذ منه شىء ’ ويقرب الى أصحابه ’ ثم ينزع ’ فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية ! قال : كلى هذا واهدى ’ فإن الناس قد أصابتهم مجاعة ( وفى رواية أخرى ) فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوا وانصرفوا ’ وإن برمتنا لتغط كما هى ’ وإن عجيننا ليخبز كما هو ) .
موقف المنافقين من العمل فى الخندق :
روى ابن هشام أنه أبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم فى الخندق رجال من المنافقين ’ وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ’ ويتسللون الى أهليهم بغير علم الرسول صلىالله عليه وسلم ’ وكان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لابد له منها يستأذنه فى اللحوق بحاجته فيأذن له ’ فإذا قضى حاجته رجع الى ما كان فيه من عمله ’ وفى ذلك نزل قوله تعالى
إنما المؤمنون الذين إذا آمنوا بالله ورسوله ’ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ’ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ’ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ’ واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ) .
نقض بنى قريظة للعهد :
وخرج حيى ابن أخطب النضرى حتى أتى كعب ابن أسد القرظى فأغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ وقال له : جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى الى جانب أحد’ قد عاهدونى وعاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه ’ فقال له كعب : جئتنى والله بذل الدهر .... ويحك يا حيى فدعنى وما أنا عليه ’ فإنى لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءاً ’ ولم يزل حيى بكعب حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد ’ وانتهى الخبر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل سعد ابن معاذ ليتحقق من الخبر وأوصاه أن يلحن له بإشارة يفهمها إذا كان الخبر حقاً . وأن لا يفت فى أعضاد الناس وإن كان كذباً فليجهر به فى الناس ’ فلما استطلع سعد الخبر ورآه حقاً عاد الى رسول الله صلى اله عليه وسلم فقال له : عضل والقارة’ أى كغدر عضل و القارة ’ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ’ أبشروا يا معشر المسلمين .
ما آل إليه حال المسلمين إذ ذاك :
بلغ المسلمين خبر نقض بنى قريظة العهد ’ وذر قرن المنافقين بينهم يفتّون فى أعضادهم ’ وجاءهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم ’ وراح المنافقون يرجفون فى المدينة حتى إن أحدهم ليقول
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ’ وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب الى الغئط ) ولما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر كذلك وأن البلاء قد إشتد بالمسلمين بعث الى سعد ابن معاذ وسعد ابن عبادة فاستشارهما فى أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة كى ينصرفوا عن قتال المسلمين فقالا له : يا رسول الله ’ أهو أمر تحبه فنصنعه ’ أم شىء أمرك به الله ’ أم شىء تصنعه لنا ؟ ’ فقال : بل شىء أصنعه لكم كى أكسر عنكم من شوكتهم ’ وحينئذ قال له سعد ابن معاذ : والله ما لنا بهذا من حاجة ’ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا و بينهم ’ فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : فأنت وذاك .
قال ابن اسحاق يروى عن عاصم ابن عمرو ابن قتادة وعن محمد ابن مسلم ابن شهاب الزهرى : ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ( أى بين المسلمين وغطفان ) إلا المراوضة فى ذلك .
أما المشركون فقد فوجئوا بالخندق حينما وصلوا إليه ’ وقالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ’ فعسكروا حول الخندق يحاصرون المسلمين ’ولم يحدث قتال غير أن بعض المشركين أخذوا يتيممون مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموا منه ’ فأخذ عليهم المسلمين الثغرة التى إقتحموا منها ’ فارتد بعضهم وقتل البعض ’ وكان ممن قتل إذ ذاك عمرو ابن عبد ودّ قتله علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه .
هزيمة المشركين بدون قتال :
وكفى الله المؤمنين القتال فهزم جموع المشركين بوسيلتين لا دخل للمسلمين فيهما :
أما أولاهما : فرجل من المشركين إسمه /( نعيم ابن مسعود ) أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً وعرض عليه تنفيذ أى أمر يريده النبى صلى الله عليه وسلم فقال له : إنما أنت رجل واحد فينا ’ ولكن خذّل عنا إن غستطعت ’ فإن الحرب خدعة ’ فخرج نعيم ابن مسعود فأتى بنى قريظة فأقنعهم - وهم يحسبونه لا يزال مشركاً - أن لا يتورطوا مع قريش فى قتال حتى يأخذوا منهم رهائن ’ كى لا يولوا الأدبار ’ فيبقون وحدهم فى المدينة دون أى نصير لهم على محمد وأصحابه فقالوا له : إنه للرأى ! ........ ثم خرج حتى أتى قريشاً فأنبأهم أن بنى قريظة قد ندموا على ما صنعوا وأنهم قد إتفقوا خفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددا من اشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم ’ فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلاً منكم ’ ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم مثل الذى قال لقريش ’ وهكذا تألب بعضهم على بعض ’ واختفت الثقة مما بينهم ’ وأصبح كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بالغدر و الخيانة .
أما الوسيلة الثانية : فهى ريح هوجاء مخيفة فى ليلة مظلمة باردة ’ جاءت فقلبت قدورهم واقتلعت خيامهم ’ وقطعت أوتادهم ’ وذلك بعد بضعة عشر يوماً من المحاصرة التى ضربها المشركون على المسلمين .
روى مسلم بسنده عن حذيفة ابن اليمان رضى الله عنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ’ وأخذتنا ريح شديدة وقرّ ’ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا رجل يأتينى بخبر القوم جعله الله معى يوم القيامة ’ فسكتنا فلم يجبه منا أحد ’ ثم قال : ألا رجل يأتينى بخبر القوم جعله الله معى يوم القيامة فسكتنا فلم يجبه منا أحد ’ ( ردد ذلك ثلاثاً )ثم قال : قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم .فلم أجد بداً إذ دعانى باسمى أن أقوم قال : إذهب فأتنى بخبر القوم ولا تذعرهم علىّ ’ فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشى فى حمام حتى أتيتهم ’ فرأيت أبا سفيان ابن حرب يصلى ظهره بالنار ’ فوضعت سهماً فى كبد القوس ’ فأردت أن أرميه ’ فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تذعرهم علىّ ’ ولو رميته لأصبته ’ فرجعت وأنا أمشى فى مثل الحمام ’ فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت ’ فألبسنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها . فلم أزل نائما حتى أصبحت ’ قال : قم يا نومان .
وروى ابن اسحاق بزيادة : فدخلت فى القوم ’ والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءاً ’ فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر إمرؤ من جليسه ؟ قال حذيفة ’ فأخذت بيد الرجل الذى كان الى جانبى فقلت له من أنت ؟ فلان ابن فلان ’ ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ’ إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ’ لقد هلك الكراع و الخف ’ وأخلفتنا بنو قريظة ’ وبلغنا عنهم ما نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون .... فارتحلوا فإنى مرتحل .
وفى صباح اليوم الثانى ’ كان المشركون كلهم قد ولوا الأدبار ’ وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى المدينة .
وكان لا يفتر عليه الصلاة و السلام طيلة هذه الأيام و الليالى عن الإستغاثة و التضرع و الدعاء الى الله تعالى أن يؤتى المسلمين النصر ’ وكان من جملة دعائه عليه الصلاة والسلام فى ذلك
اللهم منزل الكتاب ’ سريع الحساب ’ إهزم الأحزاب ’ اللهم إهزمهم وزلزلهم ) .
* وفى هذه الغزوة فاتت النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة فى وقتها فقضاها بعد خروج الوقت ’ فقد ورد فى الصحيحين أن عمر ابن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ’ فقال : يا رسول الله ما كدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب ! ... فقال النبى صلى الله عليه وسلم : والله ما صليتها ’ فقمنا الى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ’ فصلى العصر بعدما غربت الشمس ’ ثم صلى بعدها المغرب ) وزاد مسلم على هذا حديثاً آخر أنه صلى الله عليه وسلم ’ قال يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ’ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ’ ثم صلاها بين العشاءين : بين المغرب و العشاء .
العبر و العظات :
وهذه الغزوة أيضاً - كما ترى - قامت على غدر اليهودوكيدهم فهم الذين أثاروا وألبوا ’ وجمعوا الجموع و الأحزاب ’ ولم يتوقف ذلك على بنى النضير الذين كانوا قد أخرجوا من المدينة ’ بل إشترك معهم بنو قريظة الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بعهود ومواثيق مع المسلمين ’ دون أن يجدوا منهم أى مكروه من شأنه أن يدعوهم الى نقض تلك العهود و المواثيق !....
ولم نعد بحاجة الى أن نعلق على هذا ونحوه ’ ونستنبط منه العظات و الدروس ’ فهومن جليات الأمور التى أصبحت من المقولات التاريخية المعروفة فى كل زمان ومكان .
ولنعد الآن الى هذا الذى استعرضناه من وقائع هذه الغزوة ومشاهدها لنقف على ما تنطوى عليه من دروس وعظات وأحكام ’ وسنلخصها فى الأمور التالية :
أولاً:- لقد كان من جملة الوسائل الحربية التى غستعملها المسلمون فى هذه الغزوة حفر الخندق ’ ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة فى التاريخ العربى و الإسلامى يحفر فيها الخنادق ’ إذ هو مما كان متعارفاً بين العاجم فقط ’ ولقد رأيت أن الذى غقترح ذلك هو سلمان الفارسى ’ وقد رأيت أن النبى صلى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان ما دعا أصحابه الى القيام بتحقيقها .
وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التى تدل على أن الحكمة هى ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها بل هو أولى بها من غيره ’ وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين إتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة ’ تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادىء المفيدة جميعها ’ أينما لاح لهم ذلك ’ وحيثما وجد ’ فالقاعدة الإسلامية العامة فى هذا الصدد ’ هى أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق فى سلوكه وعامة شؤونه و أحواله ’ وإذا كان المسلم كذلك ’ فهو ولا ريب ’ لا يمكن أن يربط فى عنقه زماماً يسلم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعى ولا بصيرة ’ وهو أيضاً لا يمكن أن يتجاهل أى مبدأ أو عمل أو نظام يسلّم به العقل النير و الفكر الحر وينسجم مع مبادىء الشريعة الإسلامية ’ ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه و الإستفادة منه .
وهذا السلوك الذى شرعه الله للمسلم ’ إنما ينبع من أصل أساسى هو الكرامة التى فطر الله الإنسان عليها إذا إقتضت مشيئته أن يكون هو سيد المخلوقات ’ وما ممارسة العبودية لله تعالى والتزام أحكام شريعته إلا ضمان لحفظ هذه الكرامة و السيادة .
ثانياً:- وفيما استعرضناه من مشهد عمل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفر الخندق ’ عبر بالغة كبرى ’ توضح لك حقيقة المساواة التى يرسيها المجتمع الإسلامى بين جميع أفراده المسلمين ’ وتكشف لك عن أن العدالة و المساواة ’ ليستا فى الإعتبار الإسلامى مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه فى إطار لامع براق ’ وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعى الذى تنبثق منه عامة القيم و المبادىء الإسلامية ظاهراً و باطناً .
فأنت تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يندب المسلمين الى حفر الخندق ’ ثم ذهب يراقبهم فى قصر منيف له مستريحاً هادئاً ’ ولا أقبل إليهم فى إحتفال صاخب رنان ليمسك معول أحدهم بأطراف أصابعه ’ فيضرب به ضربة واحدة فى الأرض إيذاناً ببدء العمل وتخييلاً لهم أنه قد شاركهم فى ذلك ’ ثم يلقى المعول ويدير ظهره إليهم ’ ينفض عن حلته ما قد علق بها من ذرات الغبار ’ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنخرط فى العمل كأى واحد من أصحابه ’ حتى لبس ثوباً من الأتربة و الغبار على جسمه فما تفرقه عن أى عامل آخر من صحبه وإخوانه ’ يرتجزون لينشط بعضهم بعضاً ’فيرتجز معهم ’ ويتعبون ويجوعون فيكون أولهم تعباً وجوعاً ’ وتلك هى حقيقة ما أقامته الشريعة الإسلامية من مساواةبين الحاكم و المحكوم ’ والغنى و الفقير ’ والصعلوك و الأمير ’ وأنت لا تجد فرعاً من فروع الشريعةوأحكامها إلا قائماً على هذا الأساس ضامناً لهذا الحق .وأعيذك أن تخطىء فتسمى هذه ديمقراطية فى السلوك و الحكم ’ فشتان ما بينهما من الفرق .
مصدر هذه العدالة والمساواة فى الدين الإسلامى ’ هو العبودية لله تعالى ’ وهى صفة عامة شاملة للناس كلهم ’ تضعهم فى صف واحد من المكانةو الإعتبار ’ ومصدر ما يسمونه بالديمقراطية ’ تحكيم رأى الأكثرية أى تأليه رأى الأكثرية على الآخرين ’ مهما كانت طبيعة ذلك الرأى ومرماه .
من أجل هذا ’ لا تعوج الشريعة الإسلامية على شىء مما يسمى بالإمتيازات لأى طبقة أو فئة من الناس ’ ولا تخص جماعة منهم بحصانة ما مهما كانت الدوافع و الأسباب ’ لأن صفة العبودية لله تعالى من شأنها أن تذيب كل ذلك وتلغيه من الإعتبار .
ثالثاً :- وفى هذا المشهد نفسه أيضاً عظة وعبرة أخرى تكشف لك عن مظهر النبوة فى شخصية النبى صلى الله عليه وسلم ’ وتضعك امام مدى ما كانت تمتلىء به نفسه من محبة أصحابه و الشفقة عليهم وتعطيك مثالاً آخر للخوارق و المعجزات التى أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم .
فأما ما يتجلى من شخصيته النبوية فى هذا المشهد ’ فذلك يبدو فى مكابدته صلى الله عليه وسلم للجوع الشديد أثناء عمله مع أصحابه ’ حتى إنه ليشد الحجر على بطنه ’ يتقى بذلك ما يجده الجائع من ألم الفراغ فى معدته ’ ترى ما الذى يمكن أن يحمله على المعاناة لمثل هذه المشقة و الجهد ؟ أهو التطلع للزعامة ؟ .... أم هى الرغبة فى المال و الملك ؟ .... أم هو الطموح الى أن يجد من حوله شيعة وأتباعاً ؟ ..... كل هذه المطامع ’ تناقض مناقضة صارخة هذا الذى يكابده ويعانيه ’ وما أبعد الرجل الذى يطمع فى جاه أو ملك أو سلطان عن الصبر على تحمل مثل هذه الآلام .
إن الذى يحمله على تحمل كل ذلك إنما هو مسؤولية الرسالة و الأمانة التىى كلف بتبليغها و السير بها الى الناس فى طريق هذه طبيعتها ’ فهذه الشخصية النبوية التى تتجلى فى عمله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فى حفر الخندق .
وأما ما يبدو خلال ذلك من محبته الشديدة لأصحابه و الشفقة عليهم ’ فإنك لتجده واضحاً فى موقفه صلى الله عليه وسلم من دعوة جابر رضى الله عنه له الى طعامه القليل ’ ذلك الذى صنعه له . لقد كان الذى دفع جابر الى دعوته صلى الله عليه وسلم ’ ما إكتشفه من شدة جوعه عليه الصلاة و السلام حينما رأى الحجر المربوط على بطنه الشريف ’ ولم يكن فى بيته من الطعام إلا ما يكفى لبضعة أشخاص ’ فاضطر الى أن يجعل الدعوة على قدر ما عنده من طعام .
ولكن كيف يتصور أن يترك النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غمرة العمل وهم يتضورون مثله جوعاً ’ لينفرد عنهم مع ثلاثة أو أربعة من أصحابه يستريحون و يأكلون ’ وإنه لأشفق على أصحابه من شفقة الأم على أولادها ! ’ أما جابر فقد كان مضطراً الى ما فعل ’ وكان ذلك منه طبيعياً ’ إذ أنه كأى مفكر عادى من الناس - لم يكن يملك أن يتصرف إلا حسب ما لديه من الأسباب المادية و الطعام الذى لديه لا يكفى فيما يجمع عليه عرف البشر إلا لهذا العدد اليسير ’ فليختص به إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشاء من بعض أصحابه فى حدود ضيقة .
ولكنه عليه الصلاة و السلام لم يكن ليتأثر بنظرة جابر إليه ’ فهو أولا لا يمكن أن يتميز عن أصحابه بشىء من النعمة أو الراحة ’ وهو ثانياً لا يمكن أن يأسر نفسه تحت سلطان الأسباب المادية وحدودها التى ألفها البشر ’ فالله وحده مسبب الأسباب و خالقها ’ ومن اليسير عليه سبحانه أن يجعل من الطعام اليسير كثيراً ’ وأن يبارك فى القليل منه حتى يكفى القوم كلهم ’ ومهما يكن فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه متضامنون متكافلون يتقاسمون النعمة بينهم مهما قلّت كما يتقاسمون بينهم المحنة مهما عظمت وكثرت ... ! فمن أجل ذلك أرسل جابراً الى داره ليهيىء لهم الطعام ’ وانفتل هو الى عامة القوم يناديهم أن يقبلوا جميعاً الى صنيعة كبرى لهم فى دار جابر .
وأما المعجزة الخارقة فى هذه القصة : فهى ما رأيت من إنقلاب شاة جابر الضعيفة الى طعام وفير كثير ’ شبع منه مئات الصحابة’ وبقيت منه بقية كثيرة تركوها بعد أن إقترح النبى صلى الله عليه وسلم على أهل البيت أن يتصدقوا بها ! ... لقد كانت هذه الخارقة العجيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقديراً إلهياً لمدى محبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وإعراضه عن الأسباب المادية وشأنها فى جنب قدرة الله وسلطانه .
والذى أريده من القارىء أن ينتبه بفكره الى مثل هذه المؤيدات الإلهية التى كان يؤيد بها النبى صلى الله عليه وسلم من وراء قيمة الأسباب المادية وسلطانها ’ فهى من أهم ما يبرز معالم شخصيته النبوية للدارس المتأمل ’ أريد من القارىء أن ينتبه بفكره الى هذه الحقيقة ’ بمقدار ما يمعن بعضهم فى الإعراض عنها ’ وإن قابلتهم وجها لوجه أثناء البحث ’ بأدلة ثابتة لا تقبل الشك .
رابعاً:- ما هى الحكمة ترى فى إستشارته عليه الصلاة و السلام لبعض أصحابه فى أن يعرض صلحا على غطفان ’ قوامه إعطاؤهم ثلث ثمار المدينة على ان ينصرفوا عن تأييد قريش ومن معهم ’ ويرجعوا عن حرب المسلمين ’ وماهى الدلالة التشريعية التى تؤخذ من تفكيره هذا ؟
أما الحكمة ’ فهى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن الى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون من القوة المعنوية و الإعتماد على نصر الله وتوفيقه رغم هذا الذى فوجئوا به من إجتماع أشتات المشركين عليهم فى كثرة ساحقة ’ الى جانب ما طلعت به بنو قريظة فى الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق ’ وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم - كما رأيت - أنه لم يكن يحب أن يسوق أصحابه الى الحرب أو مغامرة لا يجدون فى أنفسهم شجاعة كافية لخوضها ’ أو لا يؤمنون بجدواها ’ وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلى الله عليه وسلم لأصحابه ’ فمن أجل ذلك عرض على أصحابه هذا الراى ’ وأنبأهم أنه ليس تبليغاً من الله تعالى ’ وإنما هو شىء يبديه لهم كى يكسر عنهم شوكة المشركين ’ إذا كانوا لا يجدون فى أنفسهم طاقة على مقابلتهم .
وأما الدلالة التشريعية فى هذه الإستشارة فهى محصورة فى مجرد مشروعية مبدأ الشورى فى كل ما لا نص فيه ’ وهى بعد ذلك لا تحمل أى دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما إقتحموها بإقتطاع شىء من أرضهم أو خيراتهم لهم ’ إذ مما هو متفق عليه فى أصول الشريعة الإسلامية أن الذى يحتج به من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو أقواله وأفعاله التى قام بها ’ ثم لم يرد إعتراض عليها من كتاب الله تعالى ’ فأما ما كان من ذلك فى حدود الإستشارة و الرأى المجرد فلا يعتبر دليلاً بحال ’ إذ الإستشارة أولاً : يمكن أن يكون المقصود منها مجرد إستطلاع لما فى النفوس كما ذكرنا ’ أى فهى ممارسة لعمل تربوى بحت ’ وهى ثانياً : حتى ولو إنتهت بعمل تنفيذى ’ يمكن أن يرد على عقبه إعتراض من كتاب الله تعالى فلا تبقى فيه أى دلالة تشريعية .
على أن علماء السيرة نصّوا كما قد رأيت على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يبرم صلحاً مع غطفان ولم تقع شهادة ولا عزيمة على الصلح وإنما الأمر كان مراوضة لم يتجاوزها .
نقول هذا لأن فئة مجهولة فى عصرنا هذا ’ أخذت تزعم زعماً شنيعاً فى منتهى الغرابة ’ وهو : أنه يجب على المسلمين أن يدفعوا ( الجزية ) الى غير المسلمين إذا إقتضت الحاجة ’ مستدلة على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم قد إستشار أصحابه فى غزوة الخندق أن يفعل ذلك !
وبقطع النظر عن هذا الذى أوضحناه من أن مضمون الرأى المعروض على بساط الإستشارة لا يعتبر دليلاً تشريعياً ’ فلسنا ندرى ما الصلة بين الجزية وما يمكن أن يتصالح عليه فريقان متحاربان ؟
فإن قلت : فهب أن المسلمين إضطروا - بسبب من أسباب الضعف - الى الخروج عن بعض أموالهم حفظاً على حياتهم وحذراً من أن تستأصل شأفة المسلمين ’ أفليس لهم أن يفعلوا ذلك ؟ .
فالجواب أن هنالك حالات كثيرة تستلب فيها أموال المسلمين وتصبح غنائم لأعدائهم ’ ويستعدى فيها الكافرون على بلاد المسلمين وخيراتهم فيتمكنون فيها ويسيطرون عليها ومعلوم - بالبداهة-أن المسلمين لا يخضعون لشىء من ذلك عن طريق الإختيار واتباع الفتوى ’ وإنما يلجأون الى ذلك إلجاءاً ويحملون عليه كرهاً ’ وهم مع ذلك يتربصون بأعدائهم الفرص السانحة ’ وأنت خبير أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما يخاطب بها من لم يكن مكرهاً ولا ملجأ ولا صبياً أو مجنون .
وإذاً فمن العبث إنتزاع هذه الحالة التى هى من وراء حدود التكليف كما يقرر على أساسها حكم تكليفى يختار على أساس الرأى و المصلحة و المراوضة .
خامساً:- كيف وبأى وسيلة إنتصر المسلمون وانهزم المشركون فى هذه الغزوة ؟
لقد رأينا الوسيلة التى إلتجأ إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى غزوة بدر ’ هى نفس الوسيلة التى إلتجأ إليها فى الخندق .... إنها وسيلة التضرع الى الله تعالى والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء و الإستغاثة ’ بل لقد كان هو العمل المتكرر الدائم الذى ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يفزع إليه كلما لقى عدواً أو سار الى جهاد ’ وهى الوسيلة التى تعلو فى تأثيرها على كل الأسباب و التهييآت المادية الأخرى ’ وهى الوسيلة التى لا تصلح حال المسلمين إلا إذا قامت على أساس بعناية كاملة .
أما كيف إنهزم المشركون على كثرتهم ’ بعد ثبات المؤمنين وصبرهم وصدق إلتجائهم الى الله تعالى فقد وصف الله الكيفية فى كتابه المبين إذ قال
يا أيها الذين آمنوا أذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ’ وكان الله بما تعملون بصيراً ’ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ) الى قوله تعالى
وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً ) . إن هذا المعنى الذى يتكرر فى غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ’ليس يعنى إغراء المسلمين بالمغامرة و الجهاد دون إستعداد وتأهب ’ وإنما هو لإيضاح أن على المسلم أن يعلم فى مقدمة اسباب النصر المختلفة صدق الإلتجاء الى الله تعالى وإخلاص العبودية له ’ فلن تجدى وسائل القوة كلها إذا لم تتوفر هذه الوسيلة بعينها ’ وإذا تحققت فى أعمال المسلمين هذه الوسيلة فحدّث عن معجزات النصر ولا حرج .
وإلا فمن أين جاءت هذه الريح العاصفة تعصف بمعسكر المشركين وحدهم ’ دون أن يشعر بها المسلمون الى جانبهم ؟! .. هى هناك تقلب قدورهم وتطير خيامهم وتقلع أوتادها ’ وتزلزل أفئدتهم بالرعب ’ وهى هنا ريح باردة رخاء ’ تنعش ولا تؤذى أحداً ! ....
سادساً :- لقد فاتت النبى صلى الله عليه وسلم صلاة العصر كما قد رأيت فى هذه الموقعة لشدة إنشغاله ’ حتى صلاها قضاء بعدما غربت الشمس ’ وفى روايات أخرى غير الصحيحين أن الذى فاته أكثر من صلاة واحدة ’ صلاها تباعاً بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها .
وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الإنشغال كان جائزاً إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركباناً عند إلتحام القتال بينهم وبين المشركين ’ إذ النسخ - على فرض صحته - ليس وارداً على مشروعية القضاء ’ وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الإنشغال . أى أن نسخ صحة التأخير ليس نسخاً لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضاً ’ بل هى سكوت عنها ’ فتبقى على مشروعيتها السابقة ’ على أن الذى يقتضيه الدليل القطعى هو أن صلاة الخوف شرعت قبل هذه الغزوة كما مر تحقيق ذلك عند الحديث عن غزوة ذات الرقاع . ومن أدلة هذه المشروعية أيضاً ما ثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عند منصرفه الى المدينة من غزوة الأحزاب ’ لا يصلين أحد العصر ( أو الظهر ) إلا فى بنى قريظة ’ فأدرك بعضهم وقت الصلاة فى الطريق فقال البعض : لا نصلى حتى نأتيها ’ وقال بعضهم : بل نصلى ’ لم يرد منا ذلك ’ فصلاها الفريق الأول بعد وصولهم الى بنى قريظة قضاء .
وإذا ثبت وجوب قضاء المكتوبة بعد فواتها ’ فسيان أن يكون السبب نوماً أو إهمالاً وتركاً متعمداً ’ إذ لم يرد - بعد ثبوت الدليل العام على وجوب قضاء الفائتة عموماً - أى دليل يخصص مشروعية القضاء ببعض أسباب التفويت دون بعضها الآخر ’ والذين تركوها فى طريقهم الى بنى قريظة لم يكونوا نائمين ولا ناسين ... فمن الخطأ إذاً أن تخصص مشروعية قضاء الفائتة المكتوبة - مع ذلك - بما عدا التفويت المتعمد ... وهو أشبه ما يكون بمن يخصصها ببعض المكتوبات دون بعض ’ بدون أى مخصص شرعى ’ وربما توهم البعض أنه قد ثبت دليل يخصص عموم أدلة مشروعية القضاء وهو المفهوم المخالف لحديث
من نام عن صلاة أو نسيها ’ فليصلها إذا ذكرها ) ولكن هذا وهم لا ينبغى أن يدخل على طالب علم متبصر ’ فالمقصود بالحديث ليس هو أمر الناسى و النائم بقضاء الصلاة ’ دون غيرها ’ ولكن المقصود التركيز على القيد ’ وهو ( إذا ذكرها ) وذلك للتنبيه الى أنه لا يشترط لمن فاتته صلاة وأراد تداركها أن ينتظر حلول وقتها من اليوم الثانى ثم يؤديها إذ ذاك ’ بل عليه أن يبادر الى قضائها بمجرد التذكر ’ فى أى وقت كان ’ فإذا عرفت إن هذا هو مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك صيغة الحديث نفسها وكما ذكر علماء الحديث ذلك وشرّاحه ’ عرفت أنه لا دلالة تشريعية تتعلق بالمفهوم المخالف للنوم أو النسيان فى الحديث