الأساس الثانى ( الأخــوة بين المسلميــن )
ثم إن الرسول صلى اله عليه وسلم آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ’ آخى بينهم على الحق و المواساة ’ وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات ’ بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية فى ذلك أقوى من أثر قرابة الرحم .
فجعل جعفر ابن ابى طالب ومعاذ ابن جبل أخوين ’ وجعل حمزة ابن عبد المطلب وزيد ابن حارثة أخوين ’ وجعل أبا بكر الصديق رضى الله عنه وخارجة ابن زهير أخوين ’ وعمر ابن الخطاب وعتبان ابن مالك أخوين ’ وعبد الرحمن ابن عوف و سعد ابن الربيع أخوين ................ وهكذا
ثم ربط النبى صلى الله عليه وسلم هذا التآخى بين أفراد الصحابة بنطاق عام من الأخوة و الموالاة ’ كما سنجدها فيما بعد .
وقد قامت هذه الأخوة على أسس مادية أيضاً ’ وكان حكم التوارث فيما بينهم من بعض هذه المظاهر المادية . وظلت عقود هذا الإخاء مقدمة على حقوق القرابة الى موقعة بدر الكبرى ’ حيث نزل فى أعقابها قول الله تعالى
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله إن الله بكل شىء عليم ) فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطع أثر المؤاخاة الإسلامية فى الميراث ’ ورجع كل إنسان فى ذلك إلى نسبه وذوى رحمه ’ وأصبح المؤمنون كلهم إخوة .
روى البخارى عن ابن عباس قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجرىّ الأنصارىّ دون ذوى رحمة للأخوة التى آخى النبى صلى الله عليه وسلم بينهم ’ فلما نزلت
ولكل جعلنا موالى ) نسخت ’ ثم قال
والذين عاقدت أيمانكم ) أى من النصر و الرفادة و النصيحة وقد ذهب الميراث .
العبر و الدلائل :
وهذا هو الأساس الثانى الذى إعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم فى سبيل بناء المجتمع الإسلامى و الدولة الإسلامية ’وإن أهمية هذا الأساس تظهر فى الجوانب التالية :
أولاً: إن أى دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها ’ ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التىخى و المحبة المتبادلة فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخى الحقيقية لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما ’ وما لم يكن الإتحاد حقيقة قائمة فى الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة .
على أن التآخى أيضاً لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها و الإيمان بها ’ فالتآخى بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى ’ خرافة ووهم ’ خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين فى الحياة العملية .
ومن أجل ذلك ’ فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس الأخوة التى جمع عليها أفئدة أصحابه ’ العقيدة الإسلامية التى جاءهم بها من عند الله تعالى و التى تضع الناس كلهم فى مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الإعتبار لأى فارق إلا فارق التقوى و العمل الصالح ’ إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء و التعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد و الأفكار المختلفة فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه .
ثانياً - إن المجتمع - أى مجتمع - إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس منتثرة مفككة ’ بشىء واحد ’ هو قيام مبدأ التناصر و التعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع ’ وفى كل نواحى الحياة و مقوماتها ’ فإ، كان هذا التعاون و التناصر قائما طبق نظام العدل و المساواة فيما بينهم ’ فذلك هو المجتمع العادل السليم ’ وإن كان ذلك قائما على الحيف و الظلم ’ فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف .
وإذا كان المجتمع السليم إنما يقوم على أساس من العدالة فى الإستفادة من أسباب الحياة و الرزق ’ فما الذى يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه ؟
إن الضمانة الطبيعية و الفطرية الأولى لذلك ’ إنما هى التآخى و التوادد يليها بعد ذلك ضمانة السلطة و القانون ’ فما أرادت السلطة أن تحقق مبادىء العدالة بين الأفراد ’ فإنها لا تتحقق ما لم تقم على أساس من المحبة و التآخى فيما بينهم ’ بل إن هذه المبادىء لاتعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع ’ ومن شان الأحقاد و الضغائن أن تحمل على طيها بذور الظلم و الطغيان فى أشد الصور و الأشكال .
من أجل هذا إتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حقيقة التآخى الذى أقامه بين المهاجرين و الأنصار أساساً لمبادىء العدالة الإجتماعية التى قام على تطبيقها أعظم و أروع نظام إجتماعى فى العالم ’ ولقد تدرجت مبادىء هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة ’ ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك الأرضية الأولى ’ ألا وهى الأخوة الإسلامية ’ ولولا هذه الأخوة العظيمة التى تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية ’ لما كان لتلك المبادىء أى أثر تطبيقى وإيجابى فى شد أزر المجتمع الإسلامى ودعم كيانه .
ثالثاً : المعنى التفسيرى الذى صاحب شعار التآخى :
لم يكن ما أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من مبدأ التآخى مجرد شعار فى كلمة أجراها على ألسنتهم ’ وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين المهاجرين و الأنصار ’ ولذلك جعل النبى صلى الله عليه وسلم من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الأخوة ’ وكانت هذه المسؤولية تؤدى فيما بينهم على خير وجه ’ وحسبنا دليلا على ذلك ما قام به سعد ابن الربيع الذى كان قد آخى الرسول بينه وبين عبد الرحمن ابن عوف ’ إذ عرض على عبد الرحمن ابن عوف أن يشركه فى بيته وأهله وماله فى قسمة متساوية ’ ولكن عبد الرحمن ابن عوف شكره وطلب منه أن يرشده الى سوق المدينة ليشتغل فيها ’ ولم يكن سعد ابن الربيع منفرداً عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن ’ بل كان هذا شأن عامة الصحابة فى علاقتهم وتعاونهم مع بعض ’ خصوصاً بعد الهجرة وبعد أن آخى النبى صلى الله عليه وسلم فيما بينهم .
ولذلك أيضاً ’ جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخى ’ دون حقوق القرابة و الرحم ’ فقد كان من حكمة هذا التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة فى أذهان المسلمين ’ وأن يعلموا أن ما بين المسمين من التآخى و التحابب ليس شعاراً وكلاماً مجردين ’ وإنما هى حقيقة قائمة ذات نتائج إجتماعية محسوسة تكون أهم أسس نظام العدالة الإجتماعية .
أما حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة ’ فيما بعد ’ فهى أن نظام الميراث الذى إستقر أخيراً ’ إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين ’ إذ لا توارث بين دينين مختلفين ’ إلا فى الفترة الأولى من الهجرة وضعت كل من الأنصار و المهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر و المؤانسة ’ بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم فى مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار فى المدينة ’ فكان ما أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم من التآخى بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية ’ ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون التآخى أقوى فى حقيقته وأثره من أخوة الرحم المجردة .
فلما إستقر أمر المهاجرين فى المدينة وتمكن الإسلام فيها ’ وغدت الروح الإسلامية هى وحدها العصب الطبيعى للمجتمع الجديد فى المدينة ’ أصبح من المناسب إنتزاع القالب الذى كان قد صب فيه نظام العلاقة بين المهاجرين و الأنصار إثر إلتقائهم فى المدينة ’ إذ لا يخشى على هذا النظام بعد اليوم من التفكك و التميع فى ظل الأخوة الإسلامية العامة وما يترتب عليها من المسؤوليات المختلفة ’ ولا ضير حينئذ أن يعود تأثير قرابة الرحم بين المسلمين من حيث كونها مؤثراً زائداً على قرابة الإسلام وأخوته . ’ ثم إن هذا التآخى الذى عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بمؤاخاة أخرى أقامها النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين فى مكة ’ قال ابن عبد البر
كانت المؤاخاة مرتين : مرة بين المهاجرين خاصة ’ وذلك بمكة ’ ومرة بين المهاجرين و الأنصار ) .
وهذا ما ؤيكد لنا أن مناط الأخوة وأساسها إنما هو رابطة الإسلام ’ غير أنها إحتاجت الى تجديد و تأكيد بعد الهجرة بسبب ظروفها و بسبب إجتماع المهاجرين و الأنصار فى دار واحدة .
فهى ليست فى الحقيقة شيئاً آخر غير الأخوة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحدة العقيدة ’ وإنما هى تأكيد لها عن طريق التطبيق