ثم إن مصعب ابن عمير عاد الى مكة فى موسم الحج العام التالى ’ ومعه جمع كبير من مسلمى المدينة ’ خرجوا مستخفين مع حجاج قومهم المشركين .
قال محمد ابن اسحاق يروى عن كعب ابن مالك : فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ’ فلما فرغنا من الحج ’ وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ’ نمنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا ’ حتى إذا مضى ثلث الليل ’ خرجنا من رحالنا لميعاد رسول اللهصلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين ’ حتى إجتمعنا فى الشعب عند العقبة ’ ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ’ ومعنا إمرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب ’ وأسماء بنت عمرو ابن عدى قال : فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب ’ فتكلم القوم وقالوا : خذ منا لنفسك ولربك ما أحببت .... فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا الى الله ورغب فى الإسلام ’ ثم قال : ( أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم ) ’ فأخذ البراء ابم معرور بيده ثم قال : ( نعم ’ والذى بعثك بالحق نبياً لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا ’ فبايعنا يارسول الله’ فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ( أى السلاح كله ) ورثناها كابر عن كابر ) ، فاعترض القول - و البراء يتكلم - أبو الهيثم ابن التيهان فقال
يا رسول الله ’ إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعنى اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا؟ .
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال
بل الدم الدم و الهدم الهدم ’ أنا منكم وأنتم منى ’ أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ) ’ ولقد كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرجوا إلىّ منكم إثنى عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم’ فأخرجوا منهم إثنى عشر نقيباً ’ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ’ فلما تخيرهم قال للنقباء : أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ’ وأنا كفيل على قومى ) .
وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء ابم معرور ثم بايع القوم كلهم بعد ذلك ’ فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
إرفضّوا الى رحالكم ) فقال له العباس ابن عبادة ابن نفلة
والله الذى بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم نؤمر بذلك ’ ولكن إرجعوا إلى رحالكم )
فرجعنا الى مضاجعنا ’ فنمنا عليها حتى أصبحنا ’ فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش ’ فقالوا : يا معشر الخزرج أنه قد بلغنا أنكم قد جئتم الى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ’ وتبايعونه على حربنا ’ وإنه والله ما من حىّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم ) فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون بالله : ما كان من هذا شىء وما علمناه ’ وقد صدقوا ’ لم يعلموه ’ قال (وبعضنا ينظر الى بعض ) .
ونفر الناس من منى ’ فتحرى القوم الخبر فوجدوا أن الأمر قد كان ’ فخرجوا فى طلبنا ’ فأدركوا سعد ابن عبادة بأذاخر ’ والمنذر ابن عمرو - وكلاهما كان نقيبا - فأما المنذر فأعجز القوم فهرب ’ وأما سعد فأخذوه ’ فربطوا يديه بشراك رحله ’ ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضريونه ويجذبونه بجبهته ’ وكان ذا شعر كثير .
قال سعد : فوالله إنى لفى أيديهم يسحبوننى ’ إذ أقبل إلىّ رجل ممن كان معهم فقال
ويحك ... أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ؟ قلت : بلى والله ’ لقد كنت أجير لكل من جبير ابن مطعم و الحارث ابن أمية تجارهما وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى ) قال: ( ويحك فاهتف باسمهما ) ففعلت ’ فجاء مطعم ابن عدى و الحارث ابم أمية فخلصاه من أيديهم .
قال ابن هشام : وكانت بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال شروطا سوى شرطه عليهم فى بيعة العقبة الأولى ’ كانت الأولى على بيعة النساء ’ وذلك أن الله لم يكن أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم فى الحرب ’ فلما أذن الله له فيها و بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة الأخيرة على حرب الأحمر و الأسود أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه ’ وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة .
قال عبادة ابن الصامت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب ’ على السمع و الطاعة فى عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا ’ وألا ننازع الأمر أهله ’ وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم .
وكانت أول آية نزلت فى الإذن بالحرب للرسول صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ’ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولا ربنا الله ’ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ’ ولينصرن الله من ينصره ’ إن الله لقوى عزيز ) .
العبر و العظات :
هذه البيعة الثانية تتفق فى جوهرها مع البيعة الأولى ’ فكل منهما إعلان عن الدخول فى الإسلام أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ وأخذ للمواثيق و العهود علىالسمع و الطاعة والإخلاص لدين الله ’والإنصياع لأوامر رسوله ’ إلا أننا نلحظ فارقين مهمين جديرين بالملاحظة و الدرس ’ بين كل من بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية .
الفارق الأول : أن عدد المبايعين من أهل المدينة فى المرة الأولى كان إثنى عشر رجلا فقط ’ أما البيعة الثانية فقد كان بضعة وسبعين بينهم إمرأتان .
فقد عاد أولئك الإثنا عشر فى السنة الأولى - ومعهم مصعب ابن عمير - لا لينطوى كل على نفسه وينعزل فى بيته ’ بل ليبشر بالإسلام كل من كان حوله من رجال ونساء : يتلو عليهم قرآنه و يبين لهم أحكامه ونظامه . فمن أجل ذلك إنتشر الإسلام تلك السنة فى المدينة إنتشاراً عظيما ً حتى لم يبق بيت إلا دخلها الإسلام ’ وأصبح حديث أهلها فى عامة الأوقات عن افسلام و خصائصه وأحكامه .
وتلك هى وظيفة المسلم فى كل عهد وفى كل مكان .
الفارق الثانى : أن البنود المنصوص عليها فى البيعة الأولى ’ خالية من الإشارة الى الجهاد بالقوة ’ ولكنها فى البيعة الثانية تضمنت الإشارة بل التصريح بضرورة الجهاد و الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته بكل وسيلة .
وسبب هذا الفارق أن أرباب البيعة الأولى إنصرفوا وهم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفس المكان فى الموسم التالى ’ ليعودوا إليه بعدد أوفر من المسلمين ويجددوا البيعة و العهد ’ فلم يكن ثمة ما يستوجب مبايعته على القتال ’ ما دام ان الإذن به لم يأت بعد ’ وما دام أن هؤلاء المبايعين سيلتقون بعد عام مرة أخرى برسول الله صلى الله عليه وسام .
لقد كانت البيعة الأولى إذاً بيعة مؤقتة ’ بالنسبة لإقتصارها على تلك البنود فقط ’ وهى البنود التى بايع عليها النساء فيما بعد .
أما البيعة الثانية ’ فقد كانت الأساس الذى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة بناءاً عليه ’ ولذا فقد كانت شاملة للمبادىء التى سيتم مشروعيتها بعد الهجرة الى المدينة ’ وفى مقدمتها الجهاد و الدفاع عن الدعوة بالقوة ’ وهو حكم وإن لم يكن قد أذن الله بشرعيته بعد فى مكة ’ ولكن الله عز وجل ألهم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك سيشرع فى المستقبل القريب.
ومن هنا تعلم مشروعية القتال فى الإسلام لم تكن إلا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم على الصحيح ’ وليس كما قد يفهم من كلام ابن هشام فى سيرته أنه إنما شرع قبل الهجرة عند بيعة العقبة الثانية . وليس فى بنود تلك البيعة ما قد يدل على مشروعية القتال حينئذ ’ لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أخذ على أهل المدينة عهد الجهاد نظراً للمستقبل ’ عندما سيهاجر إليهم ويقيم بينهم فى المدينة . و الدليل على هذا ما سبق ذكره أن العباس ابن عبادة قال بعد البيعة : والله الذى بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا ’ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم نؤمر بذلك ’ ولكن إرجعوا إلى رحالكم )
ومن المتفق عليه أن أول ىية نزلت فى الجهاد و مشروعيته هى قوله تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) وقد روى الترمذى وغيرهما عن ابن عباس قال : لما خرج النبى صلى الله عليه وسلم من مكة ’ قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ’ إنا لله وإنا إليه راجعون ’ ليهلكن ’ قال ابن عباس فأنزل الله عز وجل
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) قال ابو بكر فعرفت أن سيكون قتال .
1- من المناسب أن يسبق القتال تعريف بالإسلام ’ ودعوة إليه وإقامة لحججه ’ وحل للمشكلات التى قد تقف فى سبيل فهمه ’ ولا ريب أن هذه المراحل الأولى فى الجهاد ’ ولذا كان القيام بتحقيقها فرض كفاية يشترك المسلمون فى المسئولية عنها .
2- إقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن لا يحملهم واجب القتال ’ إلى أن توجد لهم دار إسلام ’ تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه ’ ويلوذون به ’ ولقد كانت المدينة المنورة أول دار فى الإسلام .