لقد مرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة مراحل؛ من الضعف والقوة، والسر والجهر، والحصار والمطاردة إلى العز والتمكين، وفي هذه المراحل نبراس للدعاة إلى الله تعالى إلى يوم القيامة، وقد تناول الشيخ في هذه المادة المرحلة السرية في الدعوة وبعض جوانبها، والدروس المستفادة منها، كما ذكر المرحلة الجهرية، والتي بدأت بإنذار الأقربين، متناولاً أهم ما امتازت به هذه المرحلة.
حكم التقيد بالمراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم.. في الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه المحاضرة تلقى في جامع الشربتلي بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (25) من شهر محرم الحرام عام (1418هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويأتي هذا الدرس ضمن السلسلة الشهرية المعنونة بـ: "تأملات في السيرة النبوية" وعنوان هذه المحاضرة: "مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم" إذ مرت الدعوة في حياته صلوات الله وسلامه عليه بمراحل، التي يقسمها العلماء إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى: الدعوة السرية والتي استمرت ثلاث سنين. المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية، ولكن مع كف اليد عن القتال، وإنما فقط الدعوة بالكلمة دون المواجهة، واستمرت هذه إلى الإذن بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . المرحلة الثالثة: استمرارية الدعوة جهراً مع قتال المبتدئين بالقتال، واستمرت إلى وقوع صلح الحديبية وتوقيع المعاهدة مع المشركين في عام الحديبية . المرحلة الرابعة: وهي استمرارية الدعوة جهراً مع قتال كل من يقف في طريق الدعوة، ويصد عن سبيل الله عز وجل. هذه هي المراحل التي مرت بها الدعوة في بداياتها، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يجب على كل من يدعو إلى الله التقيد بهذه المراحل بمداها الزمني، كما وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يدعو أول شيء إلا سراً، ثم ينتقل جهراً؟ والجواب: إن ذلك غير مطلوب من الدعاة أن يتقيدوا بذلك؛ وذلك لأن المدى الزمني الذي حددت فيه تلك المراحل تقدير رباني، وليس جهداً بشرياً فقط، فالتقيد بهذه المراحل لا يتلاءم ولا يتماشى مع مرونة الإسلام في معالجة الأمور ومواجهة القضايا. والسيرة النبوية تمثل حركة الإسلام، وتفتح أمام الدعاة والعاملين للإسلام نماذج كثيرة لخيارات متعددة، بحسب الأحوال والملابسات التي يعيشها المسلم، فقد تقتضي الضرورة في بعض الظروف أن تكون الدعوة سراً، وذلك في البلاد الكافرة التي تحارب الإسلام وتحارب الدعاة، فهناك لابد للمسلمين الذين يريدون نشر الدين أن ينشروا دينهم بطريقة سرية، حتى لا تضرب دعوتهم من قبل الكفار. أما إذا كانت الدعوة تمارس في بلاد المسلمين، فليس لدى المسلم شيء يخفيه على المسلمين، فنحن عندما ندعو الناس إلى الله لا نقدم لهم شيئاً نخاف عليه أو نخشى منه، نحن نقدم لهم وسيلة النجاة، وندعوهم إلى سفينة الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، والإسلام هو البديل الصحيح، وهو يمثل الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، فما نقدمه للمسلمين إنما هو عملية تذكير لهم، فلا نخاف على شيء ولا نخشى من شيء، وبالتالي لا داعي للسرية؛ لأنك تمارس دعوتك بين المسلمين، وظروف الغفلة والشهوات والشبهات التي أضلت بعضهم تقتضي أن تذكرهم، ولهذا جاء الأمر من الله عز وجل بالدعوة إلى الذكرى، قال عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10]. وخلاصة القول في الموضوع هذا: أن قضية الدعوة سراً أو جهراً إنما تقدر بقدرها، بحسب الظروف التي يعيشها الداعية والمسلم في زمانه ومكانه، ولكل حال وزمان علاج يناسبه، وقد لا يناسبه في زمان آخر ولا في مكان آخر. وسنتحدث إن شاء الله بالتفصيل عن المراحل الأربع مرحلةً مرحلة.......
المرحلة الأولى: الدعوة السرية
عندما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم للأوامر الربانية التي صدرت له من الله بتبليغ الرسالة، جاءت هذه الآيات في أول الوحي واضحة من قول الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7] هذه الآيات من أوائل ما نزل. الرسول صلى الله عليه وسلم نُبئ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، فكانت بداية النبوة والوحي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وفي المرة الثانية نزلت هذه سورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وقد لخصت هذه الآيات رغم قصر عباراتها، ورغم اختصارها، وهذا كله في الآيات المكية، والذي يقرأ القرآن يلاحظ أن الآيات التي نزلت في مكة تتميز بقوة العبارة وبقصرها واختصارها، بينما الآيات التي نزلت في المدينة تتميز بالإطالة والإطناب في بيان أحكام الشرع، فالآيات الطوال كلها آيات المدينة، بينما المكية كلمتان أو ثلاث فقط: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المقام لا يقتضي التطويل، إنما يقتضي كلمات معدودة، في تكليف محدود، وفي عمل مشروع، وكانت هذه البداية. ......
ملخص الأوامر الربانية بالدعوة في سورة المدثر
لقد لخصت هذه الآيات مضمون الدعوة التي أنيط بالنبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى الناس، ولا تكاد جميع السور المكية تخرج عن إطار هذه الآيات التي جاءت في أول سورة المدثر. ففي قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المدثر: الذي أخذ دثاره وتلحف بثيابه، وجلس يريد الراحة والسكينة، ويريد الجلوس والأنس، جاءت هذه الآيات لتشير إلى أن زمن التدثر والخلود إلى الراحة، والأنس والسكينة، والجلوس في البيت مع الزوجة والأولاد والأبناء قد ولى، وجاء زمن المجاهدة بكل أبعاده المادية والمعنوية. والإنسان -أيها الإخوة- يشعر بعظم المسئولية وضخامة الرسالة التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قاس نفسه وهو يجد الصعوبة ويفشل -أحياناً- في تربية أولاده في بيته، إذا كان عنده ولدان أو ثلاثة أو أربعة ومثلهم بنات، ثم يجد أن هذا فشل في تربيته، وتلك فشل في تربيتها، فيشعر بالمسئولية الكبيرة التي أنيطت بالنبي صلى الله عليه وسلم في هداية العالمين. ليس في تربية بيته، ولا هداية قبيلته، ولا هداية مدينته، ولا الجزيرة العربية ، وإنما وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فيكلف بهذه الرسالة ثم يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فيربيه الله عز وجل ويؤهله حتى يؤديها، ويستطيع القيام بها من أول لحظة، وهو يقول: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] انتهى، لا يوجد تدثر ولا جلوس الآن.
الأمر بالإنذار وعدم ذكر التبشير
(قم): والقيام هنا قيام حسي وقيام معنوي، وهذا فيه إشارة إلى تكليفه بأمر الدعوة للناس كافة.. قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] والرسل عليهم الصلاة والسلام وظيفتهم البشارة والنذارة، كما قال عز وجل في سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:163-165] فالله عز وجل وضَّح أن الرسل كلهم من نوح إلى محمد وظيفتهم مبشرين ومنذرين، لكن هنا يقول الله: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] ولم يذكر البشارة، لماذا؟ يوجد هناك سر، رغم أن النبوة تتضمن البشارة والنذارة؛ البشارة بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة من العذاب والنار والدمار في الدنيا والآخرة، لكن حالة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة تقتضي النذارة فقط؛ وذلك لما كان عليه الناس من الشرك، فقد أمعنوا في الكفر، وتجاوزوا الحدود في الضلالات، فإذا جاء ليعطيهم بشارات قد لا يستجيبون، لكن تقريعهم وتخويفهم من عذاب الله بالنذارة، كان هذا أدعى إلى الاستجابة؛ ولهذا خصها بالذكر، رغم أن بعض أهل العلم يقول: إن النذارة تتضمن البشارة، فهو ينذر من عذاب الله ويبشر بنعيم الله الذي يلحق المؤمن إذا هو استجاب لأمر الله وترك طريق الشيطان. قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:2-3] وفي هذه العبارة الصغيرة، إشارة إلى أنه ليس في الوجود أكبر من الله خالق الوجود.. خالق الإنسانية.. خالق الكون والحياة، فيجب أن يُعَظِّم إذ لا خالق إلا هو، وما دام أنه لا خالق إلا هو، فليس هناك من يستحق التقدير والتعظيم والتمجيد والتقديس والعبادة إلا هو، فتعظيم غيره ظلم.. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]. ولذا على الناس أن يعلموا هذه الحقيقة ليتواضع الناس كلهم للكبير المتعال، وفي هذا التوحيد المطلق، يوم أن تعلم أن الله هو الكبير فتوحده، وتخضع لأمره، وتستجيب له دونما سواه، وترفض كل أمر يتعارض مع أمره، فأنت بهذا توحد الله وتعلن العبودية الخالصة له سبحانه وتعالى.
الأمر بتطهير الثياب والغرض منه
بعد هذا يقول عز وجل : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وفي هذا إشارة إلى أن الداعية الذي يريد أن يكون مؤثراً في الناس؛ لا بد له أن يبدأ بتطهير نفسه ظاهراً وباطناً، حساً ومعنىً؛ حتى يكون مثالاً لمن يدعوهم إلى الطهارة بكل معانيها، إذ من غير المعقول والمقبول أن تدعو الناس إلى شيء وأنت تخالفه، يقول الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقـام وذي الـضنا كيما يصح به وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الصف:2-3] أي: عظم إثماً عند الله: أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]. ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال.. الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان.. لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان. هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله! والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة.. تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن. وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟! لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] وعلى حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا. لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.
الأمر بهجران الذنوب والمعاصي
قال عز وجل: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] الرجز: الشرك والمعاصي والذنوب والآثام، وفي هذه العبارة إشارة إلى أن توحيد الخالق يقتضي ويتطلب عدم تعظيم أو تقديس أي شيء لا يخضع لخالق الكون والحياة، ولا يعترف بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات لله، وأن المسلم ينبغي له أن يهجره. ثم قال عز وجل : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] وفي هذا إشارة إلى أن ما خص به من منع إعطاء الشيء ابتغاء شيء أكثر هو أنه مقرون بأجمل الأخلاق وأشرف الآداب، ليكون مثلاً أعلى للبشرية؛ لأنه يدعوها إلى مكارم الأخلاق، ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقد أوتي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق أرفع قدر وأعلى نسبة، فإن الكمالات البشرية الموزعة على جميع الأنبياء والرسل وعلى جميع الناس، لم تجمع لشخص واحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله له بشهادة ربانية عالمية: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] من قائل هذا الكلام؟ إنه الله، الله يشهد له ويقول: يا محمد! إنك لعلى خلق عظيم، عظيم عندي وعندك، ليس عند الله فقط، فيا لها من شهادة! ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: (كان خلقه القرآن) من أراد أن يعرف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فليقرأ القرآن، القرآن يحتوي على أفضل الكمالات، وهي مترجمة كاملة في تطبيق وسلوك وأخلاق وتعامل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الأمر بالصبر عند التبليغ
في ختام هذه الأمور الهامة التي ترسم معالم الدعوة، ويصل بها الإنسان إلى نصرة الحق والدين، هذه الحقيقة التي هي تحمّل لأمانة الدعوة، كان لابد من توجيه يحفظ له هذا الأمر، وهو الأمر بالصبر، فقال الله عز وجل له: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] إذ أن من يتصدى للدعوة لابد أن يتعب، ولابد أن ينصب، ولا بد له من الابتلاء؛ ولهذا لا بد له أن يتسلح بسلاح الصبر؛ ولهذا قدم هنا الجار والمجرور: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] قدم الجار والمجرور على العامل المتعلق به وهو الصبر، ما قال: اصبر لربك، التقديم هنا للاختصاص، أي: اجعل الصبر مختصاً بالله؛ لأنه يمكن أن تصبر لربك ولغير ربك؛ لكن لا اجعل الصبر خالصاً لله.. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] أي: احتسب كل ما ينالك في سبيل الدعوة عند الله عز وجل.
استجابة الرسول لأوامر ربه وقيامه بالدعوة سراً
لما وجهت هذه التوجيهات الربانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عظمتها، ونهض من فراشه، وأخذ يدعو إلى دين ربه ثلاث سنوات متتاليات سراً، وكان قد أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهاره بعد ثلاث سنين، كما يذكر ابن إسحاق في السير، ومما يدل على السرية في الدعوة ما جاء في خبر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، حيث قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو في مكة وهو حينئذ مستخفٍ) أي: مستخف بالدعوة، وهذا الحديث في صحيح مسلم ، وكان تحركه في بداية دعوته في الوسط الذي يربطه؛ في أسرته، مثل زوجته وأبنائه، ومواليه، وأصدقائه المباشرين الذين كان يطمئن إليهم، ويثق فيهم.
أوائل المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
لهذا يلحظ أن من أوائل من استجابوا إلى الدعوة هم هؤلاء، أول واحدة استجابت زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، صاحبة العقل الكبير، وصاحبة المواقف العظيمة والأيادي البيضاء، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخاها حينما تزوج بها، فما تزوج بها لأي غرض إلا لهذا الغرض؛ العقل والخلق والنظر البعيد، ولهذا اختارها وعمرها أربعون عاماً وهو في سن الخامسة والعشرين، صلوات الله وسلامه عليه، فكانت أول من آمنت به وبرسالته، كما هو مشهور، وقد هونت عليه من أمر الدعوة، وكانت بذلك أول من أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبشيره بالجنة، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب) وهذا الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم. وأقرأها الله السلام، وبشرها أن لها في الجنة قصراً من ذهب، لا صخب فيه ولا نصب رضي الله عنها وأرضاها. ومن المستجيبين في بداية الدعوة السرية: علي بن أبي طالب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه، والختن: هو زوج البنت، زوج بنته فاطمة البتول ، و أبو الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.. علي بن أبي طالب كان أول المستجيبين من الشباب، وكان يتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولاد أبي طالب كثير، فقد كان ذو عيال، فطلب منه أن يكون علي معه، فكان في حجره وفي تربيته، وتحت كنفه، فكان علي أول من أسلم من الشباب الصغار. ومن المستجيبين في المرحلة الأولى: المولى زيد بن حارثة ، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء أبوه يطلبه: (إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ببنوته؛ لأن أصل زيد ليس عبداً مملوكاً بل هو حر، لكن أمه أخذته وذهبت من بيت زوجها حارثة إلى بيت أهلها في غضب عائلي، أي: خلاف منزلي؛ لأن بعض النساء جاهلات ما أن يحصل بينها وبين زوجها أي خلاف إلا وتخرج، وهذا من نقص العقل، فلا تخرج المرأة من بيت زوجها إذا حصل شجار، يخرج الرجل ولا تخرج المرأة؛ لأنه إذا خرج يستطيع أن يعود، لكن أنتِ إذا خرجتِ، فمن يرجعك؟ وأهلها يقولون: لا ترجعي حتى يأتي هو يأخذك، وإذا اتصلوا به تعال خذها، قال: لا، الذي ذهب يرجع، والله ما آتي آخذها، وتبقى هي الضحية.. فلا تفكر المرأة بالخروج من بيت زوجها أبداً بأي خلاف، إلا إذا قررت أن لا حياة مع الزوج، بعد أن تدرس الموضوع دراسة متأنية، وتصدر قراراً نهائياً تعرف فيه أن هذا الزوج لا يمكن أن يكون لها زوجاً، أما لمجرد أي خلاف، خلاف عائلي يسير على مسألة البيت، على مسألة مع الأولاد، وعلى الفور أخذت عباءتها وفتحت (الشنطة) وأخذت أغراضها وخرجت، فمن الذي يرجعها؟! وبعض الأزواج -والعياذ بالله- سيئ الخلق فما أن يحصل بينه وبين زوجته شيء إلا ويقول: الباب يمشي منه الجمل، أي: إن كنتِ مثل الجمل اخرجي، هذا نوع من امتهان المرأة، فلا تريها الباب، اخرج وبعد ذلك ارجع، ومن أعظم الوسائل للقضاء على الخلافات المنزلية خروج الزوج، إذا رأيت الأمر محتدماً والنار مشتعلة بينك وبين العيال، فخذ (غترتك) وامش ويزول الخلاف، وسوف تدخل وإذا هي تضحك وأنت تضحك، لكن إذا جلست منك كلمة ومنها كلمة، وبعض النساء مسكينة ليس معها إلا أن تدافع عن نفسها بلسانها، لا تستطيع أن تضربك ولا أن تطلقك ولا أن تخرجك، فما عندها إلا هذا اللسان، وبعض الأزواج أناني يريد كل شيء له، يقول: اجعلي آخر كلمة لي أنا، لا تردين عليَّ، آخر كلمة أقولها إذا رديتِ أرد، وترد ويرد، وبعد ذلك يجد أن ليس عنده إمكانية، كلما قال كلمة قالت كلمة، فيريد أن يضربها، فإذا ضربها فبعض النساء تضارب، فإذا رأى أن السلاح عندها وعنده سواء، استعمل السلاح النووي وهو الطلاق، فتتحطم الأسرة، ويتشرد الأبناء، وينفرط عقد الحياة.. لماذا ؟ لو فكر الإنسان لوجد السبب تافهاً، لكن أفضل الأمور إذا سمعت بمشكلة حصلت في البيت -وليس هذا انهزام، بل هو رجولة- فاخرج وسيخرج الشيطان، ثم عندما تدخل تقول: السلام عليكم، ذهب الخلاف واضحك وابتسم، (خيركم خيركم لأهله) وهذا ليس عاراً عليك، أفضل الناس الذي يعامل أهله بهذه الأخلاق. فهذه أم زيد خرجت، وفي الطريق لقيها بعض الناس فضربوها وأخذوا ولدها وباعوه في السوق بيع الرقيق، واشترته خديجة من سوق مكة ، ولما تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وبقي أهل زيد يبحثون عنه حتى علموا أنه بيع في مكة ، وأتوا يسألون حتى وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، وجاء القافّ الذي يعرف الأثر، وقال: هذا الرجل من هذا الرجل، وكانت العرب تعرف بالقيافة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا هو معكم إن أردتموه فهو لكم) وهذا من كرم الأخلاق، لم يقل: هذا عبدي مملوك عندي، لا. إن كان يريد أن يذهب معكم فخذوه، فجاء زيد وخيره النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: (إن شئت أن تقيم عندي وإن شئت أن تنطلق مع أبيك، قال: ما أنا بالذي أختار عليك يا رسول الله! فقال له أبوه: ويحك يا زيد ! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم. ما كنت لأختار على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما قال هذا الكلام أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم عليه بقضية التبني، وخرج به على ملأ من قريش ونادى: إن هذا زيد بن محمد من هذا اليوم وليس زيد بن حارثة ، ثم أبطل الله تبارك وتعالى هذا الشيء وأنزل: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] .. ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] فنادى صلى الله عليه وسلم وأخبر أن زيداً بن محمد قد عاد كما هو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، هذا أول من أسلم من الموالي، وقد نزل فيه قوله عز وجل: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] رضي الله عنه وأرضاه. وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة، حين أمرّه النبي صلى الله عليه وسلم على المعركة، فكان زيد بن حارثة أميراً على الغزوة وهو مولى، وتحت إمرته جعفر بن أبي طالب ، و جعفر ابن عم الرسول، فقال: (إن مات زيد فيأخذ الراية جعفر، وإن مات جعفر فيأخذ الراية: عبد الله بن رواحة، وإن مات عبد الله فالأمر شورى بين المسلمين) وفعلاً ماتوا الثلاثة في غزوة مؤتة وأخذ الراية بعدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموتهم وهو في المدينة يخطب يوم الجمعة، فقال: (قتل زيد وأخذ الراية جعفر ثم قال: ثم قتل جعفر وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم قال بعدها: قتل عبد الله وأخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ). كان زيد هذا من أوائل الذين أسلموا في العهد الأول في الفترة السرية التي كانت في أول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر الصديق وحادثة الإسراء
من الأوائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسمي الصديق لأنه يصدق من غير تردد، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا ودعوته فأخذ وفكر إلا أبا بكر ) لا يعرف التردد، فما يقول الرسول شيئاً إلا وصدقه، وسمي بـالصديق لكثرة تصديقه، ولقوة يقينه، وأطلق عليه ذلك اللقب بعد حادثة الإسراء؛ لأنه صدق بشيء لا يصدق إلا بالإيمان. حادثة الإسراء كانت حادثة ذات منعطف خطير في حياة الدعوة؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ، أسري به ثم عرج به يقظة لا مناماً بجسده وروحه، هذا هو المحقق عند العلماء من أهل السنة ، أنه أسري به جسداً وروحاً وليس رؤيا منامية، الله يقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] والعبد يقتضي الروح والجسد، وما قال: أسرى بروح عبده وأسري به من أين؟ من مكة المكرمة ، إلى أين؟ إلى المسجد الأقصى الأسير الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخلصه من أيدي اليهود. والمسافة من مكة إلى الأقصى شهر بالقوافل وأسري به صلى الله عليه وسلم إليه في طرف ليل، وكان يمتطي البراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون الفرس، لكن خطوته عند منتهى بصره، مثل البرق، حتى وصل، وهناك صلى بالأنبياء ثم صعد في المعراج وعرج به إلى أن بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه هناك الصلوات الخمس، ثم عاد وركب البراق ووصل مكة في نفس الليلة. وحينما نحدث به اليوم يمكن أن نقبله؛ فقد ابتكرت من وسائل النقل ما يقارب هذه، بإمكان الواحد أن يذهب بالطائرة من جدة إلى الرياض أو من جدة إلى بيت المقدس ويعود في نفس الليلة وينام في داره. لكن لو حدثنا بهذا قبل زمن، هل يمكن أن تصدق لو قيل لك: هناك حديدة طويلة يركب فيها أربعمائة من الرجال بعفشهم وعوائلهم وترتفع في الليل من الأرض وتصل إلى الرياض خلال ساعة، هل تصدق؟ والله لو ما ركبنا فيها ما صدقنا، فكيف يكون هذا الحديث كأنها مربوطة بحبل وتنظر في الليل وترى الجبل والسهل، لا تعلم عن شيء إلا وأنت قد وصلت، لكن هذا حصل، فلو حدث الناس في هذا الوقت بهذا الأمر يمكن يُقبل، لكن الناس في ذلك الوقت لا يعرفون من وسائل الاتصال والنقل إلا البعير والحصان والحمار والجمل، وهذه الوسائل البدائية التي تقطع الطريق شهراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إني ذهبت وعدت في نفس الليلة، وليست الرحلة فقط في الأرض، بل قال: ثم إلى السماء، فلما أخبر الصحابة والناس في الصباح حصل نوع من الرجة، وسمع المشركون وقالوا: والله ما بقي إلا هذه، نقطعها شهراً ذهاباً وشهراً إياباً وأنت تأخذها في ليلة! ثم جاءوا يشككون الصحابة وكل واحد وقف، وجاءوا إلى أبي بكر الصديق وأرادوا أن يهزوه؛ لأن اهتزاز أبي بكر يعني هزة الجميع، وثبات أبي بكر يعني ثبات الجميع.. قالوا: أو ما سمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه أسري به البارحة من بيت أم أيمن في مكة إلى بيت المقدس ، وعرج به إلى السماء حتى وصل السماء السابعة، ثم نزل وأصبح في بيت أم أيمن ، قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] اللهم صلِّ على رسول الله. إنها قضية تجرد، قضية تسليم العقل إذا وجد التعارض، ما دام قال الرسول الصادق إذاً صدق ولو لم يصدقه عقلي، فسمي من ذلك اليوم بـ(الصديق ). وحتى لا يهتز ذوو الإيمان الضعيف كان هناك دلائل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فقد جاء المشركون في عملية زعزعة وقالوا له: صف لنا بيت المقدس ، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت رحلته قصيرة، ومهمته محدودة، صلى بالأنبياء وصعد، وما جلس يتفقد بيت المقدس .. يعني: أنتم الآن في هذا المجلس كل شهر وأنتم تحضرون، لو سألتكم: كم عدد الأعمدة في هذا المسجد؟ ربما لا تعلمون، وكذلك كم فيه نوافذ؟ كم فيه أبواب؟ ونحن شهود جالسون؛ لأن هذا لا يسترعي انتباهنا حتى نجلس نحدده، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجل أن يكشف على المسجد، ويستعرض الأبواب والنوافذ والأعمدة، جاء ليؤدي رسالة وصعد، فقالوا له من باب الامتحان: صف لنا بيت المقدس ، فالله عز وجل طوى له الأرض وكشف له بيت المقدس أمامه وهو في مكة ، فجلس يصفه عموداً عموداً، واسطوانة اسطوانة، وباباً باباً، ونافذةً نافذةً، كأنما يراه، عامل المكان اختصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤمنوا، بل قام أحدهم قال: عندما ذهبت في الليل هل رأيت قافلتنا الآتية من الشام؟ كيف أراها وأنا ذاهب في الليل؟! الذي في الليل لا يري الذي في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (نعم رأيتها، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان حمراوان، تأتيكم يوم كذا قبل صلاة المغرب وبعد العصر، ورأيتها في المكان الفلاني) كيف رآها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الله أوحى إليه في اللحظات التي كانت في ذاك المكان، ولما كانوا ينتظرون بالدقيقة والساعة إذا بالقافلة آتية والجمل أمامها، وسألوا الذي مع القافلة في تلك الليلة أين كنتم؟ قالوا: كنا في المكان الفلاني، الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل آمنوا؟! لا. يقول الله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146]لم تكن البراهين والدلائل غير كافية، بل لقد كانت كافية لكن الذي لا يريد أن يستمع كيف تفعل به؟ عندما تقول لشخص: هذا (ميكرفون) فيقول لك: لا، هذه سيارة.. حيرتني، هذا -يا أخي- (ميكرفون) وليست سيارة، فيقول: انظر هذا الكفر حقها وهذا.. فكيف تقنعه؟ فما ينبغي للإنسان أن يكابر، ولهذا سمي الكفار كفاراً؛ لأنهم يغالطون ويغطون الحقائق؛ فإن الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، فالكافر يغطي الحقيقة ويكتمها وأبو بكر الصديق رضي الله عنه سُمي الصديق من يومه ذلك رضي الله عنه وأرضاه.
فضل أبي بكر وجهده في الدعوة إلى الله
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمر : (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت) هذا الحديث رواه البخاري ، وهو كالنص على أنه أول من أسلم؛ لأن سبب الحديث حصول خلاف بسيط، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكيه، فقال: (يا عمر ! إن الله بعثني نبياً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد)، أي: يقدم رجلاً ويؤخر أخرى (إلا أبا بكر ما تردد حين ذكرت الإسلام لـه) بل قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ذكره ابن إسحاق في السير والمغازي . وفي إطار هذه السرية التي كانت تحيط بالدعوة في بدايتها، تحرك كل واحد من هؤلاء الذين أسلموا في الوسط الذي يحيط به، فتحرك أبو بكر الصديق وكانت له أبرز حركة؛ لأنه صاحب نفوذ وصاحب مال وصاحب شخصية، له شخصية مرموقة، وله وقار وهيبة، فتحرك في أقاربه وفي أصدقائه، واستجاب له نفر كريم من الصحابة الكرام منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة، أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهم: - عثمان بن عفان ، الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه وأرضاه. - الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه. - طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه. - سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه. - عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه. - عثمان بن مضعون رضي الله عنه وأرضاه. - أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه. - أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه وأرضاه. الله أكبر! كل هؤلاء إنتاج أبي بكر، ما أعظم هذا الرجل! كيف كان يؤثر بهذا القدر وبهذه الضخامة! لأنه كان صادقاً، ودائماً الصادق في عمله الذي يؤديه بصدق له تأثير وله خصوصية في فتح قلوب الناس، دائماً كلما كنت صادقاً وصاحب صدق مع الله يجعل الله في عملك بركة، ويضاعف لك الثواب؛ لأنك صادق وجاد، وهكذا كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. ومن خلال هؤلاء الكرام الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق أخذ الإسلام ينتشر في مكة وفي خارج مكة ، ودخل في الإسلام أناس كثير من بطون قريش ومن مواليها خاصة، وأتباع الرسل دائماً من المستضعفين والموالي؛ لأنهم يجدون في الدين ما يعيد لهم شيئاً من حريتهم وكرامتهم وعزهم، أما أصحاب العظمة وأصحاب المال وأصحاب المكانة، فإنهم يترددون في قبول الدين؛ لأنه يردهم إلى مكانهم الصحيح، وهم يريدون أن يمارسوا الطغيان والتسلط، والكبرياء والغطرسة على الضعفاء، فإذا جاء الإسلام، وقال: الناس سواسية، رفضوا هذا، إلا من كان منصفاً منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وممن اشتهروا بين السابقين في الإسلام من الموالي: بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم على يد أبي بكر، و صهيب بن سنان ، و عمار بن ياسر ووالده ياسر وأمه سمية بنت خياط ، هؤلاء من الموالي الذين أسلموا في بداية الدعوة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فترة وجيزة وصل عدد الذين سبقوا إلى الإسلام من بطون قريش إلى أكثر من خمسين نفراً في فترة يسيرة، مع الحركة المنظمة المرتبة، التي كانت تحمل الإخلاص من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أبي بكر الصديق ، ومن قبل خديجة ، ومن قبل الصحابة الذين أسلموا في البداية، انتشر الإسلام قليلاً حتى أصبحوا أكثر من خمسين رجلاً. وقد ثبت أن ورقة بن نوفل الذي ذكرنا أنه ابن عم خديجة في الدروس الأولى، جاءت إليه خديجة لتخبره بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه أسلم وكان من المسلمين الأول، وذلك بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته وعليه ثياب بيض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض) رواه أحمد في المسند ، وعلق عليه صاحب الفتح الرباني وصحح إسناده، وقال صلى الله عليه وسلم في روايه أخرى: (رأيته وعليه ثياب بيض في بطنان الجنة وعليه السندس) رواه ابن كثير وحسنه أبو يعلى في الطبقات ، وقال: (لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين) وقال عليه الصلاة والسلام: (يبعث ورقة يوم القيامة أمة وحده) فكل هذه الأدلة تدل على أن الرجل مات مسلماً.
السابقون إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم
يتضح -أيها الإخوة- من سجل أسماء السابقين إلى الإسلام أنهم كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يذكر بعض الناس أنهم كانوا خليطاً من الضعفاء والمستضعفين والأرقاء؛ بل كانوا من خيار الناس حتى ولو كانوا موالي، وهم أصحاب عقول وبعد نظر وشجاعة وثبات على الحق؛ إذ أنه مورس في الإسلام عليهم ضغط كبير، ومع هذا لم يتزعزعوا، ولم يكونوا نفعيين، ولا أسلموا من أجل المصلحة، ولو كانوا لما صبروا على ما أوذوا. بلال بن رباح أوذي أذىً لا يعلمه إلا الله.. كان يجرد من ثيابه، ويخرج به إلى الرمضاء في مكة ، وحرارة مكة في الصيف لا يتحملها أحد، ثم يخلس من ثوبه، ثم يؤتى به على الأرض التي تشع مثل النار، ثم يوضع على صدره الحجارة، ثم يسحب جلده على الأرض وما بينه وبين الأرض شيء، على أن يرجع عن دين الله، فيقول: أحد.. أحد.. ما رأيكم في هذا الرجل؟ هذا قمة في الإيمان وجبل في الدين، ما ثبت على هذا إلا لعظمته في قلبه، حتى قال عليه الصلاة والسلام له : (إيه يا بلال إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة، فماذا تعمل؟ قال: لا شيء يا رسول الله! غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين) طاهر دائماً لا يرضى أن يكون على حدث، وهذا فيه إشارة إلى أن المسلم دائماً يكون على وضوء؛ لأن الوضوء سلاح المؤمن، كلما أحدثت لا تخرج وأنت على حدث بل توضأ ولا يكلفك شيئاً، وذلك لأنك قد تفاجأ بالصلاة أو بمصحف تقرأ فيه، أو تفاجأ بأي أمر وإذا بك جاهز، الوضوء سلاح المؤمن، فكن دائماً طاهراً، وإذا جئت لتنام فنم على طهارة، وإذا خرجت من بيتك فكن طاهراً، لا تبقى على حدث لا أصغر ولا أكبر؛ لأنك بهذا تكون جاهزاً ومستعداً لممارسة أي نوع من أنواع العبادة ولا تتردد، فقد تمر على مسجد وترى الناس يدخلون فتدخل، ولا يوجد ماء لكن أنت متوضئ والحمد لله.
الدروس المستفادة من مرحلة الدعوة السرية
هناك -أيها الإخوة- بعض العظات والحكم والعبر التي نستخلصها من هذا المقطع من مرحلة الدعوة السرية: أولاً: إلهام الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ربه بأن يبدأ الدعوة سراً، وذلك إرشاد له وإرشاد للدعاة من بعده، إلى وجوب الأخذ بالحيطة وممارسة الأسباب، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدعوم بقوة الله ولو بدأ الدعوة جهراً فإن الله سيحفظه، ولن ينالوا منه شيئاً، لكن لبيان منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه ناقة فقال: (يا رسول الله! أطلقها وأتوكل، أم أعقل وأتوكل؟ فقال له: بل أعقلها وتوكل) خذ بالسبب ثم توكل على الله عز وجل؛ لأن ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد على الأسباب نقص في الدين، إذا اعتمدت على السبب فهذا نقص في الدين، وإذا تركت السبب فهو نقص في عقلك. يأتي أحدهم ويقول لك: كل، فتقول: لا أريد أن آكل، لماذا ؟ أكلت أو ما أكلت الحياة بيد الله، وأنا إذا أكلت لن يزيد عمري، وإذا ما أكلت لن أموت، نقول له: ستموت غصباً عنك؛ لماذا؟ لأن من سنن الله الكونية أن تأكل من أجل أن تعيش، أما إذا لم تأكل فستموت، أتريد أن يغير الله سننه من أجل خاطرك أنت؟! لا. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] والله يخبرنا في القرآن أن عيسى عليه السلام يقول لأمه مريم عليها السلام، وهي في حالة المخاض: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً [مريم:25] كان يكفي أن تساقط الرطب من غير هز؛ لأن الذي أنبت الشجرة وأعطاها قادر على أن ينزلها من غير هز، لكن الأخذ بالأسباب من أجل أن تعمل هي، تهز النخلة فينزل الرطب. والوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ الدعوة سراً، ففيه دليل على مشروعية الأخذ بالحيطة، وممارسة الأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل المفيدة، التي تعمل على إنجاح الدعوة، وعلى عدم الزج بها في مواجهات خاسرة وغير منتصرة، خصوصاً عند ضعف الدعوة. فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً، وهذا لا يخدش في إيمانه، فضلاً عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام. العظة الثانية: يقول جمهور العلماء: إن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد أو ضعف من العدة، بحيث يغلب على ظنهم أنهم سيقتلون، من غير أن يكون هناك نكاية في أعدائهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس؛ لأن المصلحة المقابلة هي مصلحة حفظ الدين، وهي موهومة أو متوقعة أو منفية الوقوع، وهذا ما يقرره العلماء، وقد قرره الشيخ / العز بن عبد السلام .. يقول أحد العلماء في تعليقه على هذا القول: إنه من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دينية، إذ أن مصلحة الدين تقتضي أن تبقى أرواح المسلمين سليمة، لكي يتقدموا ويجاهدوا ويستمروا في الدعوة؛ لأن في هلاكهم إضراراً بالدين، وفسحاً للمجال أمام الكفرة ليقتحموا ما كان مسدوداً بوجود المسلمين، وهو بهذا يعني: أنه إذا عُرف أن المصلحة ليست في القتال؛ لأن المواجهة معروفة ومكشوفة لنا، إذ أن العدد قليل، والعدة غير كافية، وأن المواجهة ستقضي على المسلمين، إذاً لا داعي للمواجهة؛ لأن ذلك من مصلحة دين الله عز وجل؛ ليبقى في وجود المسلمين قانون يسمونه (قانون التدافع) وهو قول الله عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، فيدفع الكفر بالإسلام، فيبقى الكفر موجوداً والإسلام موجوداً، هؤلاء يعملون وهؤلاء يعملون، لكن إذا واجهت الكفر وليس عندك إمكانية للمواجهة، وقضى عليك، خلت الساحة للكفار، ولم يعد هناك شيء من التدافع الذي يرفع الفساد؛ لأن الله يقول: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251] ما دام الخير يدفع الشر يحصل فيه أيضاً صلاح، لكن إذا خلا الجو للشر ظهر الفساد في البر والبحر بما تكسب أيدي الناس من الفساد والعياذ بالله! هذه هي المرحلة الأولى وهي الدعوة سراً.
المرحلة الثانية: الدعوة جهراً
لقد بدأت بقول الله عز وجل : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصعد الصفا وهتف: (يا صباحاه) فقالوا: من هذا؟ فاجتمع إليه كل قريش، ثم قال: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب عليه اللعنة: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله عز وجل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:1-4]) هذا الحديث في الصحيحين، وكانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ لقريش، وقد فاصل النبي صلى الله عليه وسلم قومه في الدعوة، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو مقدار الصلة بينه وبين الناس، وأن عصبية القرابة والصلة التي كانت تقوم بين العرب قد زالت في ظل حرارة الإيمان، والإنذار الآتي من عند الله. ......
فوائد ودروس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
من هذا نقتبس -أيها الإخوة- بعض الفوائد، ومنها: إن الموقف السلبي لعشيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وللعرب القرشيين بصفة عامة من الدعوة في هذه الفترة، فيه رد على من يحاول أن يصور هذا الدين وأن نجاحه كان نتيجة العصبية القومية، ويزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته الدعوة القومية والعصبية، وهذا باطل؛ لأن بعض القوميين العرب حينما بدأت الدعوة القومية -لكن الحمد لله ماتت في مهدها في فترة من الفترات قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة- نادى الناس بـالقومية العربية والاجتماع حول العروبة وترك القومية الدينية، وقالوا: نحن نبدأ حضارتنا من العرب، وضيعوا على المسلمين مجداً عظيماً.. هذا فيه رد؛ لأن موقف العرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان: الرفض والمحاربة والسلبية، ومع هذا انتصر دين الله عز وجل. إذاً: في تباطؤ الناس عن دين الله، فيه دليل على قوة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش فيها ردحاً من الزمن، وهذا وضع يواجهه الدعاة. يا أخي في الله! ليس من السهل أن تأتي على مجتمع تعارف على شيء من التقاليد والأعراف والعادات، وتريد أن يغيرها الناس بجرة قلم، لأن الناس تعودوا عليها واعتادوها، ولذا من الصعب أن يتركوها، ولذا تواجه أنت وعندك هذا الشعور وهذا الحس أنك تمارس عملاً عظيماً، وعندما يخبو صوت الدعوة المهتدية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن هذه العادات تنشط، لكن إذا بدأت الدعوة المهتدية بالهدي النبوي وبالنور الرباني وبالحكمة؛ فإن هذه العادات والتقاليد تختفي وتزول، لكن تحتاج القضية إلى وقت وإلى صبر، أما المواجهة بسرعة والتوقع للاستجابة الفورية فهذا غير وارد. أيضاًَ من العبر في هذا المقطع بالذات: أن في خصوصية الأمر بإنذار العشيرة إشارة إلى درجة المسئولية بالدعوة، وأنها تتعلق بكل مسلم، خصوصاً الدعاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل المسئولية تجاه نفسه أولاً، لكونه مكلفاً بعبادة الله عز وجل، ثم تجاه أسرته وأهله لوصفه رب الأسرة والمسئول عنها، ثم تجاه أقاربه وعشيرته لكونه ملاصقاً لهم ومخالطاً لهم، وبينهم وبينه علاقات، وتربطه بهم روابط، فعليه مسئولية أعظم مما على الآخرين البعيدين عنهم، ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسئولية كل مسلم مكلف، إذ على المسلم أن يبدأ بنفسه، ثم ينتقل في الخطوة الثانية بمسئوليته تجاه أولاده وزوجته وبناته ووالديه. وإن دعوة الوالدين تحتاج إلى نوع من اللين والرفق والدراية؛ إذ من الصعب أن يقبل الوالد من ولده.. لماذا؟ لأن الوالد يعرف الولد بمدى زمني بعيد، يعرفه وهو طفل يؤذي، ويعرفه وهو يدخل المدرسة ويمر بفترة زمنية، ثم يفاجأ به في لحظة من اللحظات وإذا به يوجهني ويعلمني الدين، ويدعوني إلى الإسلام، يقول لي: اتق الله! أعرف هذا اللّعاب من زمن! ولذلك لا يقبل الأب ويرفض ويقول: أنت تعلمني! وربما يضربه. ولهذا انتبه! إذا أردت أن توجه نصيحة للوالد فلا توجهها من مكان التعالي والشعور بالأستاذية، أو أنك تعلم أباك وهو الجاهل، حتى لو كان عندك شهادة وأبوك لا يحمل أي شهادة فإنه يحتقرك؛ لأنه يعرفك وهو الذي جاء بك. فعليك أن تعطيه الدعوة لكن تقدمها في قالب مقبول محبوب، تقول: يا أبتي! أنت أعرف مني، وأفضل مني وأنا أستحي وأقول: عيب علي إن أعلمك وأقول لك هذا الكلام، لكن من باب الفائدة، وهذه ا