البشائر بمولده
اتفقت الإمامية إلا من شذ منهم على أن ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت في السابع عشر من شهر ربيع الأول يوم الجمعة عند طلوع الفجر في عام الفيل بمكة المعظمة في الدار المعروفة بدار محمد بن يوسف، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فوهبه لعقيل بن أبي طالب فباعه أولاده محمد بن يوسف أخا الحجاج فأدخله في داره فلما كان زمن هارون أخذته الخيزران أمه فاخرجته وجعلته مسجداً فصار مكاناً معروفاً يزار ويصلى فيه ويتبرك به.
روي الشيخ الصدوق بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: كان أبليس لعنه الله يخترق السموات السبع فلما ولد عيسى عليه السلام حجب عن ثلاث سموات وكان يخترق أربع سموات فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجب عن السبع كلها ورميت الشياطين بالنجوم وقالت قريش هذا قيام الساعة التي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه. وقال عمرو بن أمية وكان من أزجر أهل الجاهلية انظروا هذه النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها زمان الشتاء والصيف فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شيء وإن كانت تثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث وأصبحت الأصنام كلها صبيحة ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس منها صنم إلا وهو منكب على وجهه وارتجس في تلك الليلة ايوان كسرى وسقطت منه أربعة عشر شرفة وغاضت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ورأى المرزبان في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم وانفصم طاق الملك كسرى في وسطه وانخرقت عليه دجلة وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطال حتى بلغ المشرق ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً والملك مخرساً لا يتكلم يومه ذلك وانتزع علم الكهنة وبطل سحر السحرة ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها وعظمت قريش في العرب وسموا آل الله قال أبو عبد الله عليه السلام إنما سموا آل الله لأنهم في بيت الله الحرام وقالت آمنة ان ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ثم خرج مني نور أضاء له كل شيء وسمعت في الضوء قائلاً يقول انك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً واتى به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه فاخذه ووضعه في حجره ثم قال:
هذا الغلام الطيب الاردان
الحمد لله الذي اعطاني
قد ساد في المهد على الغلمان
ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً، وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا ما الذي افزعك يا سيدنا فقال لهم ويلكم لقد انكرت السماء والأرض منذ الليلة لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم (عليهما السلام) فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا ما وجدنا شيئاً فقال إبليس لعنه الله أنا لهذا الأمر ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع ثم صار مثل الصر وهو العصفور فدخل من قبل حرا فقال له جبرئيل عليه السلام وراك لعنك الله فقال له حرف أسألك عنه يا جبرئيل ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له ولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال هل لي فيه نصيب؟ قال لا، قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيت.
وروي ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين عليه السلام قال لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيت الأصنام في الكعبة على وجوهها فلما أمسى سمع صيحة من السماء جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وروي أنه أضاء تلك الليلة جميع الدنيا وضحك كل حجر ومدر وشجر وسبح كل شيء في السموات والأرض لله عز وجل وانهزم الشيطان وهو يقول خير الأمم وخير الخلق واكرم العبيد وأعظم العالم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي الشيخ الكليني عن أبي جعفر عليه السلام قال لما ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة والعاص بن هشام وأبو دخرة بن أبي عمرو بن أمية وعتبة بن ربيعة فقال أولد فيكم مولود الليلة فقالوا لا قال فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد بن شامة كلون الخز الادكن ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه قد اخطاكم والله يا معشر قريش فتفرقوا وسألوا فاخبروا انه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا انه قد ولد فينا والله غلام قال قبل ان أقول لكم أو بعد ما قلت لكم قالوا قبل ان تقول لنا قال فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا أخرجي ابنك حتى ننظر إليه فقالت ان ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى وسمعت هاتفاً في الجو يقول لقد ولدتيه سيد الأمة فقولي اعيذه بالواحد من شر كل حاسد وسميه محمداً قال الرجل فاخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخر مغشياً عليه فاخذوا الغلام فادخلوه إلى أمه وقالوا بارك الله لك فيه فلما خرجوا افاق فقالوا له مالك ويلك قال ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة هذا والله من يبيرهم ففرحت قريش بذلك فلما رآهم قد خرجوا قال فرحتم أما والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب وكان أبو سفيان يقول يسطو بمضر.
في قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
قال الطبرسي: قال ابن عباس: كان اليهود يستفتحون، أي يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولونه فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتصفونه وتذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم.. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبت له النبوة وآدم بين الروح والجسد.
[صحيح الترمذي: ج 2 ص 282] روي بسنده عن أبي هريرة (قال) قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة. (قال) وآدم بين الروح والجسد.
[مستدرك الصحيحين: ج 2 ص 600] روي بسنده عن العرباض ابن سارية السلمي (قال) سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول إني عند الله في أول الكتاب لخاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته.
[حلية الأولياء: ج 7 ص 122] روي بسنده عن ميسرة الفخر (قال) قلت يا رسول الله متى كتبت؟ (قال) فقال الناس مه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوه كتبت نبياً وآدم بين الروح والجسد.
[تاريخ بغداد: ج 3 ص 70] روي بسنده عن أبي هريرة (قال) سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) متى وجبت لك النبوة؟ (قال) بين خلق آدم ونفخ الروح فيه.
في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التوراة والإنجيل
[مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 2 ص 174] روي بسنده عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التوراة، فقال أجل والله أنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وحرزاً للأميين وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، (قال) يونس: ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً (قال عطاء) لقيت كعباً فسألته فما اختلفا في حروف إلا أن كعباً يقول بلغته: أعيناً عمومى، وآذاناً صمومى، وقلوباً غلوفى، قال يونس غلفاً.
[حلية الأولياء: ج 5 ص 386] روي بسنده عن ابن أخي كعب (قال) قال كعب: إنا لنجد نعت النبي (صلى الله عليه وآله) في سطر من كتاب الله نجده في سطر محمد رسول الله، وأمّته الحمادون يحمدون الله على كل حال، ويكبرونه على كل شرف، رعاة الشمس، يصلون الصلوات الخمس لوقتهن ولو على كناسة، يأتزرون على أوساطهم، ويوضؤن أطرافهم، لهم في جو السماء دوي كدوي النحل، ونجده في سطر آخر محمد المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، ومهاجره بطيبة وملكه بالشام.
[طبقات ابن سعد: ج 1 القسم 2 ص 89] روي بسنده عن سهل مولى عتيبة انه كان نصرانياً من أهل مريس وأنه كان يتيماً في حجر أمه وعمه وانه كان يقرأ الإنجيل (قال) فاخذت مصحفاً لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة فانكرت كتابتها حين مرت بي ومسستها بيدي (قال) فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء قال ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد (صلى الله عليه وآله) انه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصاً مرقوعاً ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد (قال سهل) فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد (صلى الله عليه وآله) جاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال ما لَكَ وفتح هذه الورقة وقراءتها؟ فقلت فيها نعت النبي (صلى الله عليه وآله) أحمد فقال انه لم يأت بعد.
نسبه و ولادته
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (و اسمه شيبة الحمد) بن هاشم(و اسمه المغيرة) ابن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان.
والداه:
كان عبد المطلب، شيخ بني هاشم، ورئيسها المطاع. وكان له عشرة أولاد، أصغرهم وأفضلهم هو عبد الله.
وكانت في مكة قبيلة قريبة تعرف ببني زهرة، منحدرة من نسل زهرة بن كلاب بن مُرة.. وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى بـ "آمنة " بنت أحد شرفائها " وهب بن عبد مناف. فلمّا شبَّ عبد الله، زوّجه والدُه بآمنة، وتمَّ الزواج على أسعده.
الميلاد المبارك :
ولم تمض إلاّ مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد البريّة النبي محمد(ص) في حين أن عبد الله، والده الكريم، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام. فلما بلغ مدينة " يثرب" التي سميت فيما بعد بالمدينة
الرسول، وافاه الأجل، فولد النبي يتيما.
ورافقت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث انخمدت نيران فارس المجوسية، وغاضت بحيرة ساوة وسقطت شرفات قصر كسرى ملك الفرس، ونُكّست الأصنام.
نشأته
واحتفلت أسرة بني هاشم بمولده المبارك احتفالاً باهراً، وذلك لأن عبد الله كان أحبّ بني هاشم إلى أنفسهم. غير أن المنيّة اختطفته وهو في نُضرة شبابه.. وبقيت منيته ثلمة في قلوبهم وجرحا عميقا في نفوسهم. فكان ميلاد محمد (ص) بلسماً لذلك الجرح، وسدَّاً لذلك الفراغ، وذكرى لذلك الشاب العظيم.
وحيث كان من عادة الشرفاء في مكة ان يطلبوا لأبنائهم مراضع من أهل البادية، لتكون نشأة أولادهم سليمة عن الضعف الجسمي والنفسي، فقد اتخذ عبد المطلب شيخ بني هاشم، وكفيل النبي محمد امرأة عربية من أفصح القبائل العربية لساناً وأكرمهم خُلقاً لتكون مرضعةً ومربيةً له. تلك كانت " حليمة " المنسوبة إلى قبيلة " بني سعد " التي كانت تسكن أطراف مدينة طائف.
ودرج الطفل المبارك في أحضان القبيلة البدوية التي كانت تنظر إليه نظرة المحبة والود، لانه كان منشأ البركة والخير فيها، وأخذ ينمو نمواً سريعاً.
ولما بلغ السادسة من عمره، رافق أمه آمنة في سفرة ودّية الى يثرب " المدينة ".. وحينما قفلوا راجعين. توفيت آمنة في منزل " الأبواء " تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين.
ولما بلغ الثامنة توفّي عبد المطلب جد النبي وكفيله، وترك كفالة محمد (ص) إلى أبي طالب، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم. ووفادة الحاج.
ولم يكن أبو طالب كفيل النبي فقط، بل كان بمثابة والدٍ حنون يرى في إكرام ابن أخيه " محمد " وفاءً لحق أخيه عبد الله، وإطاعةً لأمر أبيه عبد المطلب، وأداءً لمسؤولية سيادته على بني هاشم، وعملا بوظيفته الإنسانية المقدسة في الحياة.
فكان النبي (ص) يذهب معه الى المرافق العامة، حتى تلك المناطق التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف، مثل دار الندوة التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء في المملكة. وكان لايدخلها إلاّ من كان سيداً في قومه، ذلك لأن أبا طالب كان حريصا على حياة محمد وتربيته، حتى أنه لما أراد أبو طالب أن يواصل رحلة قريش التي كانت تتّجه إلى كل من اليمن في الشتاء، والشام في الصيف لغرض التجارة، اصطحب معه النبي (ص) وهو فتىً لم يبلغ مبلغاً من العمر يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار.
وحينما سارت القافلة، رأوا شيئا غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل. فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس. وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة.
الراهب بُحيرا:
بالقرب من مدينة بصرى القديمة، كانت تقوم صومعة يسكن فيها عابدٌ مسيحيٌّ اشتهر في الناس انه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة.
ولم يكن هذا الراهب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز، لأنه كان مستغنياً عنهم، في الوقت الذي كانوا محتاجين إليه..
وكانت قد مَّرت قافلة قريش التجارية بهذه المنطقة مرات عديدة، ولم يرمقهم هذا الراهب بطرف ولا خطروا عنده ببال.
أما في هذه المرة فقد تبدلت الأمور.. قبل أن يصل الركب، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء.. ثم يقلب وجهه في السماء كأنه يطلب شيئاً في الأرض وشيئاً في السماء.. فلما اقترب الركب، لاحظ الناس أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سواء بسواء. وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلك الليلة، وتعجب الناس كلهم من هذه البادرة، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال: إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة.
وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام، حيت التقى بالنبيِّ راهب آخر كان يدعي ب " ابو المويعب " وبشر الناس قائلاً: هذا نبيّ آخر الزمان.
ورجع النبي الى مكة وامتلأ رفاقه في تلك الرحلة إعجاباً به وإعظاماً له. فلما قصّوا على الناس قصصهم في السفرة، اشتهر أمر النبيّ أيَّما اشتهار.
ثم بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه نظر التوقير والإحترام. فحينما هدم السيل بنيان الكعبة، وأرادت قريش ترميمها، اختلفت في الذي يجب أن يحظى بفخر وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة، فقد كان لذلك الحجر شأن عظيم في نظر قريش وسائر العرب. وكاد الزعماء في قريش يحارب بعضهم بعضا، بيد أنَّ حكماءها قالوا: لنحتكم إلى أول داخل من هذا الباب، فرضي الجميع بذلك.
ووقف الناس ينتظرون أول الداخلين من ذلك الباب، فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ قد أشرقت عليهم، وإذا صوت واحد يقول: هذا الأمين قد رضينا به. فعرف النبيُّ ماجرى بينهم، فأمر بأن يؤتى بثوب، ثم أمر بأن يأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه. وهكذا حفظ النبي بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها، كما أنه فاز بفخر تركيز الحجر بنفسه، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين.
وكانت الرذيلة والأخلاق السيئة متفشّية بين الشباب بصورة فاحشة، حتى أنه لم يكن في العرب شاب لم يتدنس بسيئاتها إلاّ الشاذ النادر.
ومع كل ذلك فلم يسجل العرب المعاصرون للنبي والمراقبون لأيام شبابه، أي ميل إلى الباطل أو أي مشاركة في لهو أو لغو، بل العكس فقد لاحظ الناسُ في النبيِّ (ص) كلَّ معاني الشرف والنبل، وكل سمات الإنسانية والصلاح.
والمعروف أنه كان قد تم الإقتراح على شرفاء مكة وساداتها، أن يكوّنوا لجنة تدافع عن حقوق الضعفاء، وتراعي أمورهم. فاستجابت النفوس الطيبة إليه، وأقسموا قسماً شرفيّاً بذلك ؛ وسُمِّيَ ب " حلف الفضول " وسواءً كان النبي هو المقترح أو غيره، فإنه قد حضره وقد أشاد به بعد الرسالة حيث قال: " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت ".
وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السموّ الخُلقي والنبل المعنوي، فقد ائتمنوه على أمورهم، وسلَّموا إليه ودائعهم، كما أفشوا إليه أسرارهم، واستشاروه في قضاياهم الخاصة.. فكان يعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم.
أما ما يخصّ أمر كفيله أبي طالب، فقد كان النبي وفياً له، بّراً به. فلقد كان أبو طالب فقيراً معيلاً، حيث إنَّه كان سيداً يتحمل مسؤوليات السيادة الخطيرة التي كانت تحتاج إلى المال قبل كل شيء، وكانت موارده قليلة جدّاً، فلذلك أخذ النبي يفكر منذ صباه في طريقة للعيش يخفف بها مسؤولية الكفالة عن عمه أبي طالب.
فاشتغل برعي الغنم شأن صبيان العرب في مكة، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالة ايضاً، وذلك أنه ما بعث الله نبيّاً إلاّ وقد كان راعياً في يوم من أيام حياته !
اوصافه
[طبقات ابن سعد: ج 1 القسم 2 ص 120] روي بسنده عن رجل من الأنصار أنه سأل علياً ـ وهو محتب بحمائل سيفه في مسجد الكوفة ـ عن نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصفته (قال) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبيض اللون مشرباً حمرة ادعج العين سبط الشعر كث اللحية سهل الخد، ذا وفرة دقيق المسربة، كأن عنقه أبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته، تجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شئن الكف والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعاً كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه اطيب من المسك الأذفر، ليس بالقصير، ولا بالطويل، ولا بالعاجز، ولا اللئيم، لم أر قبله ولا بعده مثله.
[كنز العمال: ج 4 ص 34] قال عن أبي هريرة (قال) توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلما كان صبيحة الخميس إذا نحن بشيخ قد جاء فقال أنا حبر من أحبار بيت المقدس، فقال يا علي صف لنا صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) كأني أنظر إليه فقال: بأبي وأمي لم يكن بالطويل الذاهب، ولا بالقصير، كان ربعة من الرجال، أبيض مشرباً حمرة، جعد المفرق، شعره إلى شحمة أذنيه، صلت الجبين، واضح الخدين مقرون الحاجبين، ادعج العينين، سبط الأشفار أقنى الأنف، دقيق المسربة، مفلج الثنايا، كث اللحية، كأن عنقه أبريق فضة، كأن الذهب يجري في تراقيه، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، شئن الكفين والقدمين، له شعرات ما بين لبته إلى صدره تجري كالقضيب لم يكن على بطنه ولا على ظهره شعرات غيرها، يفوح منه ريح المسك إذا قام غرم الناس وإذا مشى فكأنما يتقلع من صخرة إذا التفت التفت جميعاً وإذا انحدر فكأنما ينحدر في صبب اطهر الناس خلقاً واشجع الناس قلباً واسخى الناس كفاً لم يكن قبله مثله ولا يكون بعده مثله أبداً (قال) الحبر يا عليّ أني أصبت في التوراة هذه الصفة، ايقنت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال أخرجه ابن عساكر (أقول): وذكر المحب الطبري في الرياض النضرة (ج 2 ص 195) حديثاً عن ابن عمر ان اليهود جاءوا إلى أبي بكر فقالوا صف لنا صاحبك فاحالهم على علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فوصفه لهم بما يقرب مما ذكر في حديث أبي هريرة.
زواجه
ومرّت الأيام، وشبّ النبي، ولم تعد هذه الطريقة لائقة به في مثل سنّه، فأخذ يمارس التجارة. ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد، المرأة الثرية التي كان يتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة، على ان يكون الربح بينها وبينهم، فتمَّ له ذلك.
وحينما ذهب النبي (ص) في هذه الرحلة التجارية، كانت من أوفق التجارات التي تمت بمال خديجة إلى ذلك الحين. وقد كان ظهر من النبي (ص) في تلك الرحلة معاجز كثيرة، لما قُصت على خديجة رغبت بالزواج بالنبيّ، فقبل النبيّ بذلك، ووافق عليه عمه أبو طالب. فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف. وكان زواجه تحولاً في حياته الإجتماعية. حيث لم يعد الآن صاحب بيت وأولاد فقط بل وصاحب ثروة كبيرة ضخمة أيضاً.
ورزق النبيَّ من خديجة خمسة أولاد هم( زينب ) و( أم كلثوم ) و( فاطمة ) و( رقيّة ) و(القاسم، أو الطاهر) عليهم السلام.
لقد كان هذا الزواج أوفق زواج يعرف في صدر الإسلام. أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت به : زوجة النبيّ، والأم الكبرى للمسلمين. بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين. وأمّا بالنسبة للنبيّ (ص) فقد كانت خديجة أول من آمن به، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة. ولم يزل النبيّ يذكر لها ذلك حتى آخر لحظة من حياته. وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ (ص) موت عمه أبي طالب، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً. ثم فقدهما في عام واحد حينما كان أحوج ما يكون إليهما معاً