معجزة الإسراء و المعراج
ويقصد بالإسراء الحالة التى أكرم الله بها نبيه من المسجد الحرام بمكة الى المسجد الأقصى بالقدس ’ أما المعراج فهو ما أعقب ذلك من العروج به الى طبقات السماوات العلا ثم الووصل به الى حد إنقطعت عنده عموم الخلائق من ملائكة وإنس وجن ’ كل ذلك فى ليلة واحدة .
وقد إختلف فى ضبط تاريخ هذه المعجزة هل كانت فى العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم أم بعد ذلك . والذى رواه ابن سعد فى طبقاته الكبرى أنها كانت قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً .
وجمهور المسلمين على أن هذه الرحلة كانت بالجسم و الروح معاً ’ ولذلك فهى من معجزاته الباهرة التى أكرمه الله بها ’ أما قصة ذلك فقد رواها البخارى ومسلم بطولها :
وفيها أنه صلى اله عليه وسلم أتى بالبراق ’ وهو دابة فوق حمار ودون بغل يضع حافره عند منتهى طرفه ...... وفيها أنه صلىالله عليه وسلم دخل المسجد الأقصى فصلى فيه ركعتين ’ ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ’ فاختار عليه الصلاة و السلام اللبن ’ فقال جبريل : إخترت الفطرة .... وفيها أنه عرج به صلى الله عليه وسلم الى السماء الأولى فالثانية فالثالثة ............. وهكذا حتى ذهب به الى سدرة المنتهى وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى .... وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلمين وهى فى أصلها خمسون صلاة فى اليوم و الليلة .
ولما كانت صبيحة اليوم التالى وحدث الرسول صلى اله عليه وسلم الناس بما شاهد ’ طفق المشركون يجمع بعضهم بعضاً ليتناقلوا هذا الخبر الطريف ويضحكوا منه . وتحداه بعضهم أن يصف لهن بيت المقدس ما دام أنه قد ذهب إليه وصلى فيه ’ والرسول صلى الله عليه وسلم حينما زاره لم يخطر فى باله أن يجيل النظر فى أطرافه ويحفظ أشكاله وعدد سواريه ’ فجلى له الله عز وجل صورته بين عينيه وأخذ يصفه لهم وصفاً تفصيلياً كما يسألون . روى البخارى ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لما كذبتنى قريش قمت فى الحجر ’ فجلى الله لى بيت المقدس ’ فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ) . أما أبو بكر الصديق رضى الله عنه فقد حدثه بعض المشركين عما يقوله الرسول ’ رجاء ان يستعظمه فلا يصدقه ’ فقال : إن كان قال ذلك فقد صدق ’ إنى لأصدقه على أبعد من ذلك .
وفى صبيحة ليلة الإسراء و المعراج جاء جبريل وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وأوقاتها ’ وكان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلى ركعتين صباحاً ومثليهما مساءاً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام .
العبر و الدلالات :
أولا : كلمة عن الرسول و المعجزات :
يولع بعض الباحثين بالمبالغة فى تصوير حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها حياة بشرية عادية ’ وذلك من خلال الإطناب فى بيان أن حياته صلى الله عليه وسلم ’ لم تكن معقدة وراء الخوارق و المعجزات ’ بل كان منكراً لها غير عابىء بها ولا ملتفت الى المطالبين بها ’ وأنه كان يؤكد دائماً أن المعجزات و الخوارق ليست من شأنه وليس له إليها سبيل ’ ويكثرون فى هذا من الإستشهاد بمثل قوله تعالى
قل إنما الآيات عند الله ) بحيث يخيل الى القارىء أو السامع أن سيرته صلى الله عليه وسلم كانت بعيدة كل البعد عن المعحزات و الآيات التى يؤيد الله بها فى العادة أنبياءه الصادقين. وإذا أمعنا فى منبع هذه النظرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ نجد أنها فى الأصل فكرة بعض المستشرقين و الباحثين الأجانب من أمثال غوستاف لوبون ’ وأوجست كونت ’ وهيوم ’ وجولد زيهر ’ وغيرهم ’ وأساس هذه النظرية عندهم وسببها هو عدم الإيمان بخالق المعجزات أولاً . ذلك لأن الإيمان بالله عز وجل إذا استقر فى النفس ’ سهل الإيمان بكل شىء بعد ذلك ولم يبق شىء فى الدنيا يستحق أن يسمى فى الحقيقة معجزة .
ثم تلقف هذه النظرية منهم ’ أناس من المسلمين ’ كان من سوء حظ العالم الإسلامى أن جندوا كل مساعيهم وعلومهم للتبشير بأفكار أولئك الأجانب دون أى سبب سوى الإفتتان بزخرف خداعهم وانخطاف أبصارهم بمظهر النهضة العلمية التى هبت فى أنحاء أوروبا ’ وكان من هؤلاء المسلمين الشيخ محمد عبده ’ ومحمد فريد وجدى ’ وحسين هيكل .
ثم نظر محترفوا التشكيك وأرباب الغزو الفكرى ’ فوجدوا فى هذا الذى يقوله بعض من المسلمين أنفسهم ما يفتح لهم آفاقاً و ميادين جديدة لغزوهم الفكرى و تشكيك المسلمين بدينهم ’ يغنيهم عن وسيلتهم العتيقة ... وسيلة الحرب المباشرة للعقيدة الإسلامية وغرس الأفكار الإلحادية فى الرؤوس . فراحوا يروجون صفات معينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالبطولة و العبقرية و القيادة فى عبارات من الإعجاب و الإطراء ’ ويبالغون فى نفس الوقت فى تصوير حياته العامة بعيدة عن كل ما لا يدركه العقل من المعجزات و خوارق العادات ’ كى يتم لهم إنشاء صورة جديدة للنبى صلى الله عليه وسلم فى أذهان المسلمين مع مرور الزمن ’ قد تكون صورة ( محمد العبقرى ) أو تكون صورة ( محمد القائد ) أو تكون صورة ( محمد البطل ) ولكنها لا ينبغى على أى حال من الإحوال أن تكون صورة ( محمد النبى الرسول ) إذ تكون جميع حقائق النبوة بما يحف بها ويستلزمها من وحى ...... وغيبيات وخوارق ’ قد قذف بها - بعامل هذا الترويج لألقاب العبقرية و البطولة البعيدين عن المعجزات و الخوارق - الى عالم ما يسمونه : الميتيولوجيا ( الأساطير ) ذلك لأن ظاهرة الوحى و النبوة تعتبران فى رأس المعجزات . وحينئذ لا ينبغى أن يتصور - بطبيعة الحال - أى سبب لتكاثر مختلف الناس و الأمم من حول الرسول وانضوائهم تحت لوائه وانسياقهم فى دعوته ’ إلا التأيثر بالعبقرية ومقومات القيادة فى حياته ... وانظر ! فإن هذا القصد الذى يهدفون إليه يتجلى واضحاً فى إشاعة كلمة ( محمديين ) كتسمية جديدة بدلا عن : مسلمين .
ولكن ما هو موقه هذا التخيل و التصور من حقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وشأنه ’ إذا ما حاولنا إستجلاء الحقيقة على ضوء البحث المنطقى و الموضوعى ؟
أولا :- إذا عدنا الى التأمل فى ظاهرة الوحى التى تجلت واضحة فى حياة النبى عليه الصلاة و السلام ( وقد مر البحث فيها بتفصيل واف ) رأينا أبرز صفة فى حياته عليه الصلاة و السلام هى ( النبوة ) لا شك فى ذلك ولا ريب ’ والنبوة هى من المعانى الغيبية التى لا تخضع لمقاييسنا المحسوسة وإذاً فإن معنى المعجزة الخارقة قائم فى أصل كيانه عليه الصلاة و السلام فلا يتسنى نفى المعجزات و الخوارق عنه صلى الله عليه وسلم إلا بهدم معنى النبوة نفسها ونسخها من حياته ’ وذلك يساوى بالبداهة إنكار الدين نفسه ’ ولئن لم يصرح بهذه النتيجة بعض الباحثين المستشرقين ’ مكتفين ببيان ذكاء الرسول ومدى عبقريته و شجاعته وسياسته للأمور ’ فذلك إكتفاء منهم برسم المقدمات عن بيان النتائج إذ النتيجة تأتى بطبيعتها بعد التسليم بمقدماتها .
على أن كثيرين صرحوا بالنتيجة ’ بعد أن ضاقت بها صدورهم ’ مثل شبلى شميل حينما سمى الإيمان بالدين إيماناً بالمعجزة المستحيلة ! .
وأنت خبير أنه لا معنى للبحث فى إنكار جزئيات المعجزات أو إثباتها ’ إذا كان أصل الدين محل شك أو إنكار .
ثانياً :- إذا تأملنا فى سيرته صلى الله عليه وسلم ووقائع حياته ’ وجدنا أن الله سبحانه وتعالى أجرى معجزات كثيرة على يديه ’ لا مناص من قبولها ’ ولا مجال لردها ’ لأنها نقلت إلينا بالأسانيد الصحيحة المتواترة التى ترتقى بالفكر و العقل الى درجة اليقين و القطع .
فمن ذلك حديث نبع الماء من بين أصابعه الشريفة ’ أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء ’ ومسلم فى كتاب الفضائل ’ ومالك فى الموطأ فى كتاب الطهارة ’ وغيرهم من أئمة الحديث بطرق مختلفة كثيرة ’ حتى نقل الزقانى عن القرطبى قوله : إن نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكرر عدة مواطن فى مشاهد عظيمة ’ وورد من طرق كثيرة يفيد مجموعها القطعى المستفاد من التواتر المعنوى .
ومن ذلك حديث إنشقاق القمر على عهده صلى الله عليه وسلم حينما سأله المشركون ذلك ’ فقد أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء ’ وأخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة ’ وأخرجه غيرهما من عامة علماء الحديث ’ وقال ابن كثير : ( قد وردت بذلك الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة ) وهذا أمر متفق عليه بين العلماء : أنه وقع على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وإنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
ومن ذلك حديث الإسراء و المعراج الذى نسوق هذا البحث بمناسبته وهو حديث متفق عليه لا تنكر قطعية ثبوته ’ وهو بإجماع جماهير المسلمين من أبرز معجزاته .
ومن العجيب أن هؤلاء الذين لا يفتأون يروجون صفة العبقرية ’ والعبقرية وحدها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويبعدون اسم المعجزات و الخوارق عن حياته يتجاهلون هذه الأحاديث المتواترة التى بلغت من الصحة درجة القطع ’ فلا يتحدثون عنها سلباً ولا إيجاباً كأن كتب الحديث غير ممتلئة بها ’ يعدّ لكل منها ما قد يزيد على عشرة طرق .
ومن الواضح أن سبب هذا التجاهل هو التهرب من الإشكال العويص الذى سيواجهونه لدى النظر فى هذه الأحاديث ’ إذ هى تناقض فى خط صريح واضح النظرية التى تطوف برؤسهم .
ثالثاً - المعجزة ’ كلمة لا يوجد لها معنى ذاتى عند التامل و التدبر ’ وما يراد بها إنما هو معنى نسبى مجرد ’ فالمعجزة فيما تواضع عليه إصطلاح الناس كل أمر خارج على المألوف و العادة ’ وكل من المألوف يتطور بتطور الأزمنة و العصور ’ ويختلف باختلاف الثقافات و المدارك و العلوم . فرب أمر كان قبل فترة من الزمن معجزة فانقلب اليوم الى شىء معروف و مألوف ’ ورب أمر مألوف فى بيئة متمدنة مثقفة ’ ينقلب معجزة بين أناس بدائيين غير مثقفين .
بل الحق الذى يفهمه كل عاقل ’ أن المألوف وغير المألوف معجزة فى أصله .
فالكواكب معجزة ’ وحركة الأفلاك معجزة ’ وقانون الجاذبية معجزة ’ والمجموعة العصبية فى الإنسان معجزة و الدورة الدموية فيه معجزة ’ والروح التى فيه معجزة ’ والإنسان نفسه معجزة ’ وكم كان دقيقاً ذاك العالم الفرنسى ( شاتوبريان ) الذى أطلق على الإنسان اسم ( الحيوان الميتافيزيقى ) أى الحيوان الغيبى المجهول .
غير أن الإنسان ينسى - من طول الإلف واستمرار العادة - وجه المعجزة وقيمتها فى هذا كله ’ فيحسب جهلاً منه و غروراً أن المعجزة هى تلك التى تفاجىء ما ألفه واعتاده فقط ! ... ثم يمضى يتخذ مما ألفه واعتاده مقياساً لإيمانه بالأشياء أو كفره بها ! وهذا جهل عجيب من الإنسان مهما ترقى فى مدارج المدنية و العلم .
وتأمل يسير من الإنسان ’ يوضح له بجلاء أن الإله الذى خلق معجزة هذا الكون كله ’ ليس عسير عليه أن يزيد فيه معجزة أخرى أو أن يبدل ويغير فى بعض أنظمته التى أنشأ العالم عليها ولقد تأمل مثل هذا التأمل المستشرق الإنكليزى ( وليم جونز ) حينما قال : ( القدرة التى خلقت العالم ’ لا تعجز عن حذف شىء منه أو إضافة شىء إليه ’ ومن السهل أن يقال عنه أنه غير متصور عند العقل ’ لكن الذى يقول عنه غير متصور ’ ليس غير متصور الى درجة وجود العالم ! )
يقصد أنه لم يكن هذا العالم موجوداً ’ وقيل لواحد ممن ينكر المعجزات و الخوارق ولا يتصور وجودها : سيوجد عالم كذا ’ فإنه سيجيب رأساً إن هذا غير متصور ’ ويأتى نفيه لتصور ذلك أشد بكثير من نفيه لتصور معجزة من المعجزات . فهذا ما ينبغى أن يفهمه كل مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما أكرمه الله به من المعجزات .
ثانياً :- موقع معجزة الإسراء و المعراج من الأحداث التى كانت تمر برسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك الحين .
لقد عانى رسول الله صلى اله عليه وسلم ألواناً كثيرة من المحن لاقاها من قريش ’ وكان آخر ما عاناه لدى هجرته الى الطائف مما مر ذكره و بيانه . ولقد ظهر فى دعائه الذى ناجى به ربه بعد أن جلس يستريح فى بستان ابنى ربيعة ما يتعرض له كل بشر من الشعور بالضعف و الحاجة الى النصير وذلك هو مظهر عبودية الإنسان لله تعالى وظهر فى إلتجائه ذلك شىء من معنى الشكاة إليه سبحانه وتعالى و الطمع منه فى عافيته ومعونته ’ ولعله خشى أن يكون الذى يلاقيه إنما هو بسبب غضب من اله عليه لأمر ما .... ولذلك كان من جملة دعائه قوله
إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالى )
فجاءت ضيافة الإسراء و المعراج من بعد ذلك تكريماً من الله تعالى له ’ وتجديداً لعزيمته وثباته ’ ثم جاءت دليلاً على أن هذا الذى يلاقيه عليه الصلاة و السلام من قومه ليس بسبب أن الله قد تخلى عنه ’ أو أنه قد غضب منه ’ وإنما هى سنة الله مع محبيه ومحبوبيه ’ وهى سنة الدعوة الإسلامية فى كل عصر وزمن .
ثالثاً :- المعنى الموجود فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم الى بيت المقدس :
إن فى الإقتران الزمنى بين إسرائه عليه الصلاة و السلام الى بيت المقدس و العروج به الى السماوات السبع ’ لدلالة باهرة على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى وفيه دلالة واضحة أيضاً على العلاقة الوثيقة بين ما بعث الله به كل من عيسى ابن مريم ومحمد ابن عبد الله عليهما الصلاة و السلام ’ وعلى ما بين الأنبياء من رابطة الدين الواحد الذى إبتعثهم الله عز وجل به .
وفيه دلالة على مدى ما ينبغى أن يوجد لدى المسلمين فى كل عصر ووقت ’ من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة ’ وحمايتها من مطامع الدخلاء و أعداء الدين ’ وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمى هذا العصر أن لا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة ’ وأن يطهروها من رجسهم ’ ويعيدوها الى أصحابها المؤمنين .
ومن يدرى ؟ لفعل واقع هذا الإسراء العظيم هو الذى جعل صلاح الدين الأيوبى رحمه الله يستبسل ذلك الإستبسال العظيم ويفرغ كل جهده فى سبيل صد الهجمات الصليبية عن هذه البقعة المقدسة حتى ردهم على أعقابهم خائبين .
رابعاً :- وفى إختيار النبى صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر حينما قدمهما له جبريل عليه السلام دلالة رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة ’ أى الدين الذى ينسجم فى عقيدته و أحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة ’ فليس فى الإسلام شىء يتعارض و الطبيعة الأصيلة فى الإنسان ولو أن الفطرة كانت جسماً ذا طول وأبعاد ’ لكان الدين الإسلامى الثوب المفصل على قدره .
وهذا من أهم أسرار سرعة تقبل الناس له وسعة إنتشاره ’ إذ الإنسان مهما ترقى فى مدارج الحضارة وغمرته السعادة المادية ’ فإنه يظل نزاعاً الى إستجابة نوازع الفطرة لديه ’ ميالاً الى الإنعتاق عن ربقة التكلفات و التعقيدات البعيدة عن طبيعته ’ والإسلام هو النظام الوحيد الذى يستجيب لأعمق نوازع الفطرة البشرية .
خامساً :- كان الإسراء و المعراج بكل من الروح و الجسد معاً ’ على ذلك إتفق جمهور المسلمين من المتقدمين و المتأخرين ’ قال النووى فى شرح مسلم ما نصه
و الحق الذى عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين أنه أسرى بجسده صلى الله عليه وسلم ’ والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ’ ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا إستحالة فى حملها عليه فيحتار الى تأويل )
ويقول ابن حجر فى شرحه على البخارى : ( إن الإسراء و المعراج وقعا فى ليلة واحدة فى اليقظة بجسده وروحه ’ وإلى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين و الفقهاء و المتكلمين وتواردت عليه ظواهر الخبار الصحيحة ولا ينبغى العدول عن ذلك إذ ليس فى العقل ما يحيله حتى يحتاج الى تأويل ) .
ومن الأدلة التى لا تقبل الإحتمال على أن افسراء و المعراج كانا بالجسد و الروح معاً ’ ما ذكرناه من إستعظام مشركى قريش لذلك ’ وتعجبهم للخبر وسرعة تكذيبهم له . إذ لو كانت المسألة مسألة رؤيا وكان إخباره إياهم على هذا الوجه ’ لما استدعى الأمر منهم أى تعجب أو إستعظام أو إستنكار ’ لأن المرئيات فى النوم لا حدود لها ’ بل ويجوز ويجوز مثل هذه الرؤيا على المسلم و الكافر ’ ولو كان الأمر كذلك ما سألوه أيضاً عن صفات بيت المقدس وأبوابه وسواريه بقصد الإلزام و التحدى .
أما كيف تمت هذه المعجزة وكيف يتصورها العقل ’ فكما تتم كل معجزة غيرها من معجزات الكون و الحياة ! ... لقد قلنا آنفاً أن كل مظاهر هذا الكون ليست فى حقيقتها إلا معجزات ’ فكما تتصورها العقول فى سهولة ويسر يمكن أن تتصور هذه أيضاً فى سهولة و يسر .
سادساً:- إحذر وأنت تبحث عن معجزة الإسراء و المعراج أن تركن الى ما يسمى ب ( معراج ابن عباس ) فهو كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند ’ وقد شاء ذاك الذى فعل فعلته الشنيعة أن يلصق هذه الأكاذيب بابن عباس رضى الله عنهما ’ وقد علم كل مثقف بل كل إنسان عاقل أن ابن عباس برىء منه ’ وأنه لم يؤلف أى كتاب فى معراج الرسول ’ بل وما ظهرت حركة التأليف إلا فى أواخر عهد الأمويين .
ولما وقف دعاة السوء على هذا لاكتاب ووجدوا فيه من الأكاذيب المنسوبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفل زعزعة إيمان كثير من الناس راحوا يروجون له ويدعون إليه ( وكان فى جملة من كتب مادحاً ومعظماً الدكتور لويس عوض ’ وما أدراك من هو لويس عوض ) مع أنهم يعلمون قبل سائر الناس أنه كتاب مكذوب على ابن عباس وأن أحاديثه كلها باطلة ’ ولكن الكذب سرعان ما ينقلب عندهم صحيحاً إذا كان فيه ما يشوش أفكار المسلمين ويلبس عليهم دينهم .