أول هجرة فى الإسلام
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه ’ قال لهم : لو خرجتم الى أرض الحبشة فإن ملكها لا يظلم عنده أحد ’ وهى أرض صدق ’ حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ’ فخرج عند ذلك المسلمون الى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً الى الله بدينهم ’ فكانت أول هجرة فى الإسلام ’ وكان فى مقدمة المهاجرين : عثمان ابن عفان وزوجته ’ رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ وأبو حذيفة وزوجته ’ والزبير ابن العوام ’ ومصعب ابن عمير وعبد الرحمن ابن عوف .... حتى إجتمع فى أرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلاً .
فلما رأت قريش ذلك ’ أرسلت الى النجاشى عبد الله ابن ابى ربيعة وعمرو ابن العاص ( ولم يكن قد أسلم بعد ) بهدايا مختلفة كثيرة ’ إليه وإلى حاشيته وبطارقته ’ رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين فى جواره ويسلمهم مرة أخرى الى أعدائهم .
فلما كلما النجاشى فى ذلك - وكانا قد كلما بطارقته من قبله وقدما إليهم ما جاءا به من الهدايا - رفض النجاشى أن يسلم أحد من المسلمين إليهما حتى يكلمهم فى شأن دينهم الجديد هذا ’ فجىء بهم إليه ’ ورسولا قريش عنده ’ فقال لهم : ما هذا الدين الذى قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من الملل ؟ .
فكان الذى كلمه جعفر ابن أبى طالب ’ فقال : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية ’ نعبد الأصنام ’ ونأكل الميتة ’ ونأتى الفواحش ’ ونقطع الأرحام ’ ونسىء الجوار ’ ويأكل القوى منا الضعيف ’ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ’ فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ’ ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان ’ وأمرنا بصدق الحديث ’ وأداء الأمانة وصلة الرحم ’ ونهانا عن الفواحش ..... فصدقناه وآمنا به ’ واتبعناه على ما جاء به من الله ’ فعدا علينا قومنا فعذبونا ’ وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الأوثان .... فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ’ خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نظلم عندك .
فسأله النجاشى أن يتلو عليه شىء مما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله ’ فقرأ عليه جعفر ابن ابى طالب صدراً من سورة مريم ’ فبكى النجاشى حتى إخضلت لحيته ’ ثم قال لهم : إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . ثم إلتفت الى رسولى قريش قائلا : إنطلقا ’ فوالله لا أسلمهم إليكما ’ ولا يكادون . ثم إنهما عادا فقالا للنجاشى : أيها الملك إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولاً عظيما ’ فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون . فأرسل إليهم فى ذلك ’ فقال جعفر ابن ابى طالب : نقول فيه الذى جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : يقول هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول .
فضرب النجاشى بيده الى الأرض فأخذ منها عوداً ’ ثم قال : والله ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود . ثم رد إليهما هداياهما ’ وزاد إستمساكه بالمسلمين الذين إستجاروا به ’ وعاد الرسل الى قريش خائبين .
وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل ’ فلم يدخل احد منهم إلا بجوار ’ أو مستخفياً وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلاً ’ وكان من بين من دخل بجوار عثمان ابن مظعون ’ دخل بجوار الوليد ابن المغيرة ’ وأبو سلمة دخل بجوار ابى طالب
العبر و العظات :
نأخذ من حديث هجرة المسلمين الى الحبشة ثلاث دلالات :
الدلالة الأولى - إن الدين والإستمساك به و إقامة دعائمه ’ أساس ومصدر لكل قوة ’ وهو السياج لحفظ كل حق من مال وارض وحرية وكرامة ’ ومن أجل هذا كان واجب الدعاة الى الإسلام و المجاهدين فى سبيله أن يجندوا كل إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه ’ وأن يجعلوا من الوطن والأرض و المال و الحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها ’ حتى إذا إقتضى الأمر بذل ذلك كله فى سبيلها وجب بذله .
ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه ’ لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض ’ بل سرعان ما يذهب كل ذلك من ورائه ’ أما إذا قوى شأنه وقامت فى المجتمع دعائمه ورسخت فى الأفئدة عقيدته ’ فإن كل ما كان قد ذهب فى سبيله من مال وأرض ووطن يعود ..... يعود أقوى من ذى قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة و القوة و البصيرة ...
ولقد جرت سنة الله فى الكون على مر التاريخ أن تكون القوى المعنوية هى الحافظة للمكاسب و القوى المادية ’ فمهما كانت الأمة غنية فى خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الإجتماعية الصحيحة ’ فإن سلطانها المادى يغدو أكثر تماسكاً وأرسخ بقاءاً وأمنع جانباص ’ ومهما كانت فقيرة فى خلقها ’ مضطربة فى عقيدتها تائهة أو جانحة فى نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادى يغدو أقرب الى الإضمحلال و مكتسباتها المادية أسرع الى الزوال .
وقد تصادف أن تجد أمة تائهة فى عقيدتها عن جادة الصواب منحطة فى مستواها الخلقى و الإجتماعى ’ وهى مع ذلك واقفة على قدميها من حيث القوة و السلطان المادى ’ ولكنها فى الحقيقة و الواقع تمر بسرعة نحو هاوية سحيقة . و السبب فى أنك لا تحس بحركة هذا المرور وسرعته هو قصر عمر الإنسان أمام طول عمر التاريخ و الأحقاب . ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهى . وقد تصادف أن تجد أمة تعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروة ووطن ومال فى سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفى سبيل بناء النظام الإجتماعى السليم ’ ولكن ما هى إلا فترة قصيرة حتى تجد أرباب هذه العقيدة الصحيحة وما يتبعها من الخلق و النظام الإجتماعى السليم قد إستحوذ على وطنهم المسلوب ومالهم المغصوب وعادت إليهم قوتهم مضاعفة معززة .
وأنت لن تجد الصورة الصحيحة عن الكون و الإنسان و الحياة إلا فى عقيدة الإسلام الذى هو دين الله عز وجل لعباده فى الأرض ولن تجد من النظام الإجتماعى العادل السليم إلا فى نظام الإسلام وهديه . ولذا فقد كان من أسس الدعوة الإسلامية التضحية بالمال و الوطن و الحياة فى سبيله ’ فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال و الوطن و الحياة .
ومن أجل هذا شرع مبدأ الهجرة فى الإسلام ’ فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه - بعد أن نالهم من أذى المشركين ما خشى عليهم معه فتنتهم فى الدين - الى الهجرة والخروج من الوطن .
وانت خبير أن هذه الهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب و الألم فى سبيل الدين ’ فهى ليست فى الحقيقة هرباً من الأذى و الراحة ’ بل هى تبديل للمحنة ريثما يأتى الفرج و النصر .
وأنت خبير أيضاً أن مكة لم تكن إذ ذاك دار إسلام حتى قال : فكيف ترك أولئك الصحابة دار الإسلام وفروا إبتغاء سلامة أرواحهم الى بلاد كافرة ’ فمكة و الحبشة وغيرها كانت سواء إذ ذاك ’ وأيها كان أعون للصحابى على ممارسة دينه و الدعوة إليه ’ فهى أجدر بالإقامة فيها .
أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب و الجواز و الحرمة ’ أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بشعائر الإسلام فيها كالصلاة و الصيام والآذان و الحج ...
وأما الجواز فيكون عندما يصيبه فيها بلاء يضيق به ’ فيجوز له أن يخرج منها الى دار إسلامية أخرى .
وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره .
الدلالة الثانية - ونأخذ منها حقيقة العلاقة القائمة بين ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام ’ فقد كان النجاشى على دين عيسى عليه الصلاة و السلام وكان مخلصاً وصادقاً فى نصرانيته ’ ولقد كان مقتضى إخلاصه هذا أن لا يتحول عنها الى ما يخالفها وأن لا ينتصر لمن تختلف عقيدتهم عما جاء به الإنجيل وما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام .
أى فلو صحت تقولات أولئك الذين يزعمون إنتماءهم الى عيسى ابن مريم وتمسكهم بالإنجيل ’ من أن عيسى ابن الله تعالى وثالث ثلاثة ’ لتمسك النجاشى ( الذى كان من أخلص الناس لنصرانيته ) بذلك ولرد على المسلمين كلامهم وانتصر لرسل قريش فيما جاءوا من أجله .
ولكنا رأينا النجاشى يعلق على ما سمعه من القرآن وترجمته لحياة عيسى ابن مريم بقوله : إن هذا و الذى جاب به عيسى ابن مريم ليخرج من مشكاة واحدة . يقول ذلك على مسمع من بطارقته وعلماء الكتاب الذين من حوله ’ وهذا يؤكد ما هو بديهى الثبوت من أن الأنبياء كلهم إنما جاؤوا بعقيدة واحدة لم يختلفوا حولها عن بعضهم قيد شعرة ’ ويؤكد لنا أن إختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً من عند أنفسهم كما قال الله تعالى .
الدلالة الثالثة - أنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا فى حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة الى ذلك ’ سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشى إذ كان نصرانياً ’ ولكنه أسلم بعد ذلك ’ أو كان مشركاً كأولئك الذين عادوا الى مكة فى حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة وكأبى طالب عم الرسول ’ وكالمطعم ابن عدى الذى دخل الرسولصلى الله عليه وسلم مكة فى حمايته عندما رجع من الطائف
وهذا مشروط - بحكم البداهة - بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية إضراراً بالدعوة الإسلامية ’ أو تغييراً لبعض أحكام الإسلام ’ أو سكوتاً على إقتراف بعض المحرمات ’ وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها .
ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقى على نفسه ولا يحمّله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهتهم بسوء ’ فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شىء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه