الإيـــــذاء
ثم إن قريشاً اشتدت فى معاداتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ’ اما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد لاقى من إيذائهم أنواعاص كثيرة ’ من ذلك ما رواه عبد الله ابن عمرو بن العاص أنه قال : بينا النبى صلى الله عليه وسلم يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة ابن أبى معيط فوضع ثوبه فى عنقه فخنقه خنقاً شديداً ’ فأقبل ابو بكر حتى أخذ بمنكبه ’ ودفعه عن النبى صلى الله عليه وسلم وقال ك أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله ؟ . ومنه ما رواه عبد الله ابن عمر قال : بينا النبى صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش ’ جاء عقبة ابن أبى معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبى صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه ’ فجاءت فاطمة رضى الله عنها فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك ’ ومنه ما كانوا يواجهونه به من فنون الهزء و الغمز و اللمز كلما مشى بينهم أو مر بهم فى طرقاتهم أو نواديهم .
ومنه ما رواه الطبرى وابن اسحاق أن بعضهم عمد الى قبضة من التراب فنثرها على راسه وهو يسير فى بعض سكك مكة ’ وعاد الى بيته و التراب على رأسه ’ فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هى تبكى ورسول الله يقول لها : يا بنية لا تبكى فإن الله مانع أباك .
وأما اصحابه رضوان الله عليهم ’ فقد تجرع كل منهم ألواناً من العذاب ’ حتى مات منهم من مات تحت التعذيب وعمى من عمى ’ ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئاً ’ ويطول البحث لو ذهبنا نسرد نماذج من العذاب الذى لاقاه كل منهم ’ ولكنا ننقل هنا ما رواه الإمام البخارى عن خبّاب ابن الأرتّ أنه قال : أتيت النبى صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً وهو فى ظل الكعبة ’ وقد لقينا من المشركين شدة ’ فقلت يا رسول الله : ألا تدعو لنا ؟ فقعد وهو محمر الوجه ’ فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ’ وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله .
العبر والعظات :
أول ما قد يخطر فى بال المتأمل ’ حينما يرى قصة ما لقيه صلى الله عليه وسلم و أصحابه من المشركين ’ من صنوف العذاب و الإيذاء ’ هو أن يتساءل : فيم هذا العذاب الذى لقيه النبى و أصحابه وهم على الحق ؟ ولماذا لم يعصمهم الله عز وجل منه وهم جنوده وفيهم رسوله يدعون الى دينه ويجاهدون فى سبيله .
والجواب أن أول صفة للإنسان فى الدنيا ’ أنه مكلف ’ أى أنه مطالب من قبل الله تعالى بحمل ما فيه كلفة ومشقة ’ وأمر الدعوةالى الإسلام و الجهاد لإعلاء كلمته من أهم متعلقات التكليف ’ والتكليف من أهم لوازم العبودية لله تعالى ’ إذ لا معنى للعبودية لله تعالى إن لم يكن ثمة تكليف ’ وعبودية الإنسان لله عز وجل ضرورة من ضرورات ألوهيته سبحانه وتعالى ’ فلا معنى للإيمان بها إن لم ندرك عبوديتنا له .
فقد إستلزمت العبودية - إذاً - التكليف ’ واستلزم التكليف تحميل المشاق ومجاهدة النفس و الأهواء ’ ومن أجل هذا كان واجب عباد الله فى هذه الدنيا تحقيق أمرين إثنين :
أولهما : التمسك بالإسلام و إاقمة المجتمع الإسلامى الصحيح .
ثانيهما : سلوك السبل الشاقة إليه واقتحام المخاطر وبذل المهج و المال من أجل تحقيق ذلك .
أى أن الله عز وجل كلفنا بالإيمان بالغاية ’ وكلفنا الى جانب ذلك بسلوك الوسيلة الشاقة الطويلة الى هذه الغاية مهما بلغت المسألة فى خطورتها و صعوبتها .
ولو شاء الله لجعل السبيل الى إقامة المجتمع الإسلامى بعد الإيمان به سهلاً معبداً ’ ولكن السير فى هذه السبيل لا يدل حينئذ على شىء من عبودية السالك لله تعالى وعلى أنه قد باع حياته وماله له عز وجل يوم أن أعلن الإيمان به ’ وعلى أن جميع أهوائه تابعة ومنقادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ’ ولأمكن حينئذ أن يلتقى على هذه الجادة المؤمن و المنافق والصادق و الكاذب ’ فلا يتمحص الواحد منهم عن الآخر ’ وإذاً فإن ما يلاقيه الدعاة الى الله تعالى و المجاهدون فى سبيل إقامة المجتمع الإسلامى ’ سنة إلهية فى الكون منذ فجر التاريخ تقتضيها حكم ثلاث :
أولا : صفة العبودية الملازمة للإنسان ’ لله عز وجل ’ وصدق الله إذ يقول : ( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) .
ثانياً : صفة التكليف المتفرعة عن صفة العبودية ’ فما من رجل أو إمرأة يبلغ أحدهما عاقلا سن الرشد ’ إلا وهو مكلف من قبل الله تعالى بتحقيق شرعة الإسلام فى نفسه وتحقيق النظام الإسلامى فى مجتمعه ’ على أن يتحمل فى سبيل ذلك كثيراً من الشدة و الأذى ’ حتى يتحقق معنى التكليف .
ثالثاً : إظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين ’ فلو ترك الله تعالى الناس لدعوى الإسلام ومحبة الله تعالى على السنتهم فقط ’ لاستوى الصادق و الكاذب ’ ولكن الفتنة و الإبتلاء ’ هما الميزان الذى يميز الصادق عن الكاذب ’ وصدق اللهالقائل فى محكم كتابه
ألم ’ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولو آمنا وهم لا يفتنون ’ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ) العنكبوت 1’2 والقائل
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) .
وإذا كانت هذه هى سنة الله فى عباده ’ لفن تجد لسنةالله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا حتى مع أنبيائه و أصفيائه ’ من أجل ذلك أوذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ وأوذى من قبله الأنبياء جميعاً و المرسلين ’ ومن أجل ذلك أوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمى من عمى ’ رغم عظيم فضلهم وجليل قدرهم عند الله عز وجل .
فإذا أدركت طبيعة العذاب الذى يلقاه المسلم فى طريقه الى إقامة المجتمع الإسلامى ’ علمت أنه ليس فى حقيقته عقبات أو سدود تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية ’ كما قد يتوهم بعض الناس ’ بل هو سلوك فى الطريق الطبيعى الذى خطه الله تعالى بين المسلم و الغاية التى أمره بالمسير إليها ’ أى أن المسلمين يتقربون الى الغاية التى كلفهم الله بالوصول إليها ’ بمقدار ما يجدونه فى طريقهم الى ذلك من العذاب ’ وبمقدار ما يتساقط منهم من الشهداء .
ولذا فإنه لا ينبغى للمسلم أن يتوهم اليأس ’ إذا ما عانى شيئاً من المشقة أو المحنة ’ بل العكس هو الأمر المنسجم مع طبيعة هذا الدين أى أن على المسلمين أن يستبشروا بالنصر كلما رأوا أنهم يتحملون مزيداً من الضر و النكبات سعياً الى تحقيق أمر ربهم عز وجل .
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب ) فقد كان جواب أولئك الذين لم يفهموا طبيعة العمل الإسلامى’ وتوهموا أن هذا الذى يرونه من الأذى و العذاب إنما هو عنوان ودليل على إبتعادهم عن النصر - كان جواب هؤلاء من الله تعالى : ألا إن نصر الله قريب .
وتجد برهان هذا جلياً فيما رويناه من قصة خباب بن الأرثّ رضى الله عنه ’ حينما جاء الى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد غالبه العذاب الذى إكتوى به معظم جسده ’ يشكو إليه صلى الله عليه وسلم ويسأله الدعاء للمسلمين و النصر ’ فقد كام جواب الرسول صلى الله عليه وسلم له بهذا المعنى ’ إن كنت تتعجب من العذاب وألأذى وتستغرب أن ترى ذلك فى سبيل الله عز وجل فاعلم أن هذا هو السبيل ... وتلك هى سنة الله فى جميع عباده الذين آمنوا به : مشط الكثير منهم فى سبيل دينه بأمشاط الحديد ما بين المفرق و القدم فما صدهم ذلك شىء من دين الله .
وإن كنت ترى فى العذاب دلائل اليأس و القنوط من النصر ’ فأنت متوهم ’ بل الحق هو أن تجد العذاب و الألم سيراً فى الطريق ودنوّا من النصر ’ وسينصرن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى إلا الله و فى رواية زائدة : و الذئب على غنمه .
وهذا المعنى نفسه هو السر فى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشّر أصحابه بأن الله سيفتح لهم بلاد فارس و الروم ’ ومع ذلك فلم تفتح هذه البلاد عليهم إلا بعد وفاته عليه الصلاة و السلام بزمن غير يسير ولقد كان من مقتضى فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه ومدى محبة الله عز وجل له أن يفتح كل تلك البلاد فى حياته وبقيادته وتحت إشرافه ’ بدلا من أن يسجل التاريخ فتحها بقيادة أحد أتباعه صلى الله عليه وسلم . لقد كان هذا قريباً من محبة الله لرسوله ’ لولا أن النصر مرتبط بالقانون الذى ذكرناه .
لم يكن المسلمون فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قد دفعوا من اجل إنتصارهم فى بلاد الشام و العراق أقساط الثمن كله ’ ولابد قبل النصر من دفع كامل الثمن ’ لابد من ذلك ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً بينهم ’ وليست المسألةأن ترتبط الفتوحات باسم الرسول صلى الله عليه وسلم وتتم بقيادته وتحت إشرافه من اجل عظيم محبة الله تعالى له ’ ولكن المسألة هى أن يبرهن المسلمون الذين بايعوا الله ورسوله على صدقهم فى هذه البيعة ’ وأن يصدقوا فيما عاهدوا الله عليه يوم أن وقعوا بالقبول و الرضى تحت قول الله تعالى : ( إن الله إشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون ) .